شهدت بيروت قبل ما يقارب النصف قرن، مع نهاية الستينات، عملية استقطاب واسعة لحمل السلاح لدى مجموعات متعددة الانتماءات، وذلك مع بداية ظاهرة السلاح الفلسطيني، وتحديدا بعد نكسة الخامس من يونيو 67. ثم تعاظمت هذه الظاهرة بعد أيلول الأسود عام 70 في الأردن الذي لم يتحمل ازدواجية السلاح، فقام بعملية عسكرية، كان من نتائجها خروج المسلّحين الفلسطينيّين من الأردن إلى لبنان على أساس مع ما عرف باتفاق القاهرة لعام 69 الذي أجاز لمنظمة التحرير الفلسطينية العمل العسكري من الأراضي اللبنانية. وتلك الظاهرة كانت السبب الأساسي في نهاية الدولة الوطنية اللبنانية، والوصول إلى النزاع الأهلي المسلّح بين أبناء الوطن الواحد، وتحويل بيروت العاصمة الجميلة إلى خطوط تماس، ممّا أدّى إلى تدمير لبنان ووقوع ما يقارب من مئتي ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى والمهجرين.
انتهت هذه المرحلة مع الاجتياح الإسرائيلي عام 82، حيث شهدنا مظاهر عكسية، وهي كيف يحاول الكبار والصغار التخلّص من السلاح الخاص. وأصبحنا نخشى المرور بالقرب من تجمّع النفايات المحترقة بسبب كمية الأسلحة التي رميت في أكوام النفايات. واحترقت الأسواق المالية للسلاح إلى حدّ أصبح فيه سعر الرشاش يساوي ثمن علبة سجائر. وخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بالبواخر إلى تونس واليمن. وتوقفت الرواتب عن المناصرين، وشهد لبنان أزمة مغايرة لنهاية الستينات أيام كان الشباب يتنافسون نحو الاستقطاب إلى حمل السلاح. فمع بداية الثمانينات أصبح الجميع يبحثون عن الدولة والاستقرار.
يطول الحديث عن التجربة اللبنانية ومآسيها التي كنّا نتمنّى أن يتعلّم منها الجميع، ولكنها كانت على ما يبدو عملية اختبارية لموجة أكبر من الفوضى المسلّحة في كلّ المنطقة العربية بدون استثناء، لولا حكمة بعض قيادات الدول العربية التي استوعبت الموجة، وحافظت على استقرار بلادها، ومساعدة الدول الشقيقة على تجاوز محنتها حتى الآن، وخصوصاً عملية الحزم في مواجهة عمليات تمويل التطرّف والإرهاب وصناعة المنظمات الإرهابية التي تستخدم العنف داخل المجتمعات العربية، خصوصاً أن مستخدمي السلاح يحتاجون إلى الأموال قبل الأفكار.
شهدنا في الأسابيع الماضية حالة من الفوضى في أسواق الأوراق الأمنية، وهي من نتائج الحصار الذي فرضته الدول الأربع على مصادر التمويل والتي حفّزت المجتمع الدولي على التعامل بجديّة أكبر مع ظاهرة التمويلات الأمنية من أجل بناء تنظيمات عنف منظّم تحت مسميات مختلفة في سورية والعراق واليمن وسيناء وليبيا، ناهيك عن العمليات التي تطال الدول الأوروبية بشكل ممنهج وبأساليب جديدة. ويرى المتابعون ما حدث في جرود لبنان من عمليات تفكيك جبهات وتعاون واضح بين ما يسمّى أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وتحديداً بين قطر وإيران وتركيا في الميدان السوري والحدود اللبنانية.
الأيّام القادمة ستشد تطوّرات أكثر وضوحاً حول انهيار أسواق الأوراق الأمنية في المنطقة، وخسارة كل تلك الاستثمارات التي وظّفت في قتل الأبرياء وتهجيرهم. وأن هذه المنظمات التي تمّت صناعتها للفوضى ستشكّل
عبئاً كبيراً على صانعيها ومموّليها. وسنشهد الكثير من انكشاف الأوراق المطوية حول المخطوطات الفوضوية التي كانت المنطقة العربية هدفاً لها مع تورّط العديد من التكوّنات العربية في تنفيذ هذه الأجندة المدمّرة. وهناك تطوّرات بالغة القسوة على دول الجوار المتواطئة على أمن واستقرار جوارها العربي، وليس أقلّها الاستفتاء الكردي مع كركوك حول الانفصال عن العراق بعد أن فشلت القيادة العراقية في حفظ الشراكة مع المكونات الوطنية.
إن تحديّات السنوات المقبلة على القيادات العربية القاطرة للاستقرار العربي كبيرة جداً، وفي مقدّمتها الحفاظ على المنظّمات التكاملية، من الجامعة العربية إلى مجلس التعاون الخليجي إلى المنظومة الاستراتيجية التي ستنطلق مع عام 2018 من الرياض. وكلّها تحدّيات تحتّم على الفكر العربي وأهل العلم والمعرفة الوقوف إلى جانب قيادات الاستقرار العربي، ووضع كلّ الجهود في عملية إعادة بناء الإنسان العربي، بعيداً عن آثار العنف والتطرف الذي أصاب بعض أجيالنا ومجتمعاتنا، وخصوصا تلك التي شهدت وتشهد أهوال النزاعات المسلّحة. وربّما تكون تجربة لبنان غير المكتملة حتى الآن في بناء مجتمع السلم الأهلي جديرة بالدراسة والاستفادة من دروسها طالما أننا لم نستفد من دروس نزاعها المسلح وانهيار أسواق الأوراق الأمنية.