الأب ذلك الملاك الحارس الذي لا يكل يتفقدنا، ويتقصى عن أحوالنا مهما كبرنا في العمر وتقدمت بنا السنون، هو ذلك الكائن الأسطوري في نفوسنا، حيث نكبر ونحن نراه وكأنه كائن قد من صخر، وننسى أنه قد يصيبه الألم والمرض والحزن، فالآباء بارعون في إخفاء آلامهم وأحزانهم وهمومهم أمام الأبناء.

إن الآباء قد لا يعبرون عن محبتهم لنا بالكلمات والأحاديث المنمقة، غير أنهم قد يعبرون عنها بطريقتهم الخاصة، والتي نراها في كثير من الأحيان تقريعا وتوبيخا وشيئا من القسوة، ونادرا ما يقول أحدهم أحبك، ومع ذلك تجده لا يكف عن تفقد أحوالك بالليل والنهار ليطمئن أن جميع أمورك على أتم ما يرام، هم يتذكرون تفاصيل حياتنا الدقيقة حين ننساها، فقد يذكرك أحدهم بموعد مقابلة شخصية، وقد يبقى الآخر مستيقظا لحين عودة ابنه إلى المنزل، ولا تعجب إذا ما تذكر أحدهم موعد انتهاء رخصة قيادتك رغم أنك لا تعلم عن ذلك شيئا، وكثيرا ما يكونون كالمنبه يوقظوننا إلى صلاة الفجر أو إلى العمل.

إن الآباء صيادون مهرة، فهم الوحيدون الذين تسقط أمامهم جميع الأقنعة التي نرتديها أحيانا مهما حاولنا المراوغة والكذب، فهم يقرؤون أعيننا وكأنهم أجهزة كشف للكذب، فنظراتهم العابرة ليست عابرة أبدا، ولكنها كالمسبار يسبر أغوارنا فيعلمون دون أن نحكي ألمنا وطيشنا وشقاوتنا وكذبنا، وكثيرا ما يتظاهرون بأنهم لا يعلمون ويغضون الطرف وحين يرون أن الأمر يستدعي الحزم يصطادون أخطاءنا، لكنهم أكثر الناس حرصا على إخفائها عن الناس، ثم يقرعون رؤوسنا ليعيدونا إلى جادة الصواب، تلك هي طريقتهم لقول كلمة أحبك، وقد يقسو الآباء على أبنائهم أحيانا كثيرة ولسان حالهم يقول: أقسو عليك بني لأني لا أريد للحياة أن تفاجئك بقسوتها، أقسو عليك لأني أريدك صلبا لا يقدر على كسرك أحد، واجه أخطاءك أمامي فأنا لا أريد أن يرى الناس أخطاءك وعيوبك.

إن وجود الأب في حياة الأبناء لا يعدل مكانته، أحد وإحساسنا بالقوة والأمان من وجود الأب في حياتنا ليس بالضرورة لقوته الجسدية أو المادية، فقد يكون الأب رجلا بسيطا، كهلا مقعدا أو فقيرا، إلا أن إحساسنا بالقوة أثناء وجوده في حياتنا ينبع من معرفتنا بأنه لا أحد في الحياة سيحبنا مثلما يحبنا هو، ولا أحد يتمنى أن يرانا الأفضل مثلما يفعل هو، ولا أحد يحفل ويكترث بمنجزاتنا الصغيرة قبل الكبيرة مثلما يفعل هو، وقد قيل في الأب: «هو ذاك الذي تطلب منه نجمتين فيعود حاملا السماء».

تحيتي لكل أب يبقى كالجندي المجهول في المنزل، تحيتي لكل أب أحسن تربية أبنائه، وضحى بالكثير لأجلهم، تحيتي لكل أب موجود في حياتنا، تحيتي لكل أب رحل عنا وفارقنا، تحيتي إليك يا أبي أينما كنت ومنذ أن رحلت عنا منذ سنين مضت وعبق ذكراك باق إلى الأبد. أبي ومن مثلك يا أبي (رحمك الله وطيب ثراك).