كل عام وأنتم في أعياد ممتدة في هذه الأيام العامرة بأجواء الحج.
تفتح وعينا على رهبة الحج في عرفة، وخطبتي مسجد نمرة وقلوبنا ترقب نفرة الحج وتطمئن إلى الدعاء بسلامتهم، ولا نكاد نشعر بالراحة حتى نسمع آخر إعلان عن نجاح موسم الحج بدون حدوث أي مصاعب تذكر. هكذا ارتبط الحج بوعينا خشوعا يبعثه منظر الحجيج وتلبيتهم التي تضج بها الفياض، وتتدثر بالبياض.
ولأهل مكة حكايات مع مواسم الحج لا يجيد روايتها إلا أهل أم القرى، إلا أنهم لا يرون فيما يقدمون لضيوف الرحمن إلا تكليفا اختصهم به الرحمن، فاتسعت صدورهم قبل بيوتهم لتستقبل الحجاج.
كل مشهد يمكنك أن تبالغ في وصفه إلا مشاهد الحج، فكلما وصفتها ازددت شعورا بالعجز عن دقة التعبير، فلا لغة تصور بياض الحج الذي يزيل الفروق والطبقيات والألقاب والصفات، ليبقى صفة مرتبطة بالعبادة، تنادي الرجل يا حاج وتنادي المرأة يا حاجة، وقد يختار بعض الناس هذا النداء صفة وقار لهم.
حين يردد قائد كرسي متحرك «يا حاج طريق يا حاج»، وأيّا كان هذا الحاج فإن روحه تسع أخاه الحاج؛ كما ستعجب كيف تطوف هذه الحشود في وقت ضيق طواف الإفاضة؟! وكيف ترمي في وقت محدد الجمرات؟! وكيف ينفرون؟ أو يبيتون في رقعة اختارها الله ضيقة، لكن أرضها تصبح رحبة لضيوف الرحمن!
فن إدارة الحشود في الحج مهارة اكتسبتها المملكة العربية السعودية منذ بدأ تاريخها الحديث، ومكانة فضّل الله بها أهل هذه الأرض لم ينازعهم فيها إلا ظالم ظهر ظلمه.
وزارة للحج تعمل طوال العام وبجهود لا يدركها إلا من كان قريب الصلة بها، أو من حج وبدأت كلمات الشكر والثناء تطغى على حديثه وترتسم على ملامحه.
للصلاة قبلة واحدة، وللحج بقعة دعا لها إبراهيم، وسعت بها هاجر، ونبعت زمزم لتروي عطش إسماعيل ولهفة أمه وعجبا لتروي ملايين البشر لاحقا!
وربما تسأل إن لم يكن لك اطلاع على آلية الحج: من أين يأتي كل هؤلاء الجنود الذين يعملون في موسم الحج بلباس مدني أو عسكري؟ والجواب أن الحجاج تخدمهم وتقوم على شؤونهم مؤسسات وأفراد يعملون متفرغين أو متطوعين من قطاعات مختلفة، سواء كان شابا ما يزال في بداية كليته العسكرية، أو ربة منزل، أو موظفة على رأس العمل.
أما سلامة الحجاج ورعايتهم صحيا فتتوجه لها قطاعات صحية من مختلف المستشفيات؛ إنها رعاية صحية تقدم العلاج وتحمل العاجز بين المشاعر ليكمل حجه.
بينما يزايد الأعداء على الحج يزداد ما يقدم للحجاج من خدمات ليتلذذ الحاج ملبيا أو داعيا، لا يحمل هما من هموم نسكه إلا وجد من يكفيه همه.
وكما تتوحد الحناجر عربية وأعجمية على لبيك اللهم لبيك توحدت جهودنا ليرتفع هذا النداء بلا انقطاع، فاختصنا الله بأن أهم مهمات ملك السعودية وولي عهده وأمير منطقة مكة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل القيام على أمن الحج وتسهيل وصول الحجاج حتى مغادرتهم سالمين.
لن ينسى التاريخ للأمير خالد الفيصل حملة (لا حج بلا تصريح) التي خففت لسنوات من زحام المشاعر ممن لم يحصلوا على تصاريح الحج من سكان المملكة.
ومن يعرف القليل عن خالد الفيصل يدرك ما يقوم به للسهر على أمن الحج. طرق للراجلين تزداد اتساعا، وممرات للعربات تزداد تنظيما، وقطار المشاعر وغيرها من الخدمات والتوسعات الضخمة لاستقبال الحجاج. نفوس اعتادت على البذل والعطاء لكل قاصد أرض الحرم، لم تعرقل حجاجا من دولة عدوة طالت عداوتها حتى سعت للتشويش على الحج، ولم ترتفع حنجرة مسؤول لتطالب بجزاء أو شكور، أو حتى رد اعتبار على التهم التي تكال ضدنا ويكذبها واقع الحال في الحج!
لغة الإنجاز والأرقام لا تكذب، ولكن أصحاب الأهواء يكذبونها. لا مشاحة على الحج؛ فما أجمل أن يكون جل هذا العمر قد مضى في خدمة مهد الإسلام!
وطوبى لمن قضى أجمل العمر قائما على الحج، ومجاورا بيت الله ببكة مهوى الأفئدة!