حين كتب الشاعر اللبناني سعيد عقل قصيدته الرائعة في مكة وأهلها (غنيت مكة أهلها الصِيدا)، ثم صدحت بها أرزة لبنان فيروز كانت إبداعا لا أجد إلى يومنا هذا من قارعه في الجمال والوصف والإحساس، وكلما قرأتها أو سمعتها اختلجت في قلبي مشاعر فياضة ومحبة جياشة، تجعل قلبي يأرز إلى مكة كلما ابتعدت عنها، ومطالع القصيدة كما سطرها الشاعر:
غنيت مكة أهلها الصِيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سما
بيت على بيت الهدى زيدا
وعلا اسم رب العالمين
علا بنيانهم كالشهب ممدودا
يا قارئ القرآن صل لهم
أهلي هناك وطيب البيدا
من راكع ويداه آنستا
أن ليس يبقى الباب موصودا
إلى آخر بيت في القصيدة..
وجمال وجهك لا يزال رجا
ليرجى وكل سواه مردودا
وصف الشاعر أهل مكة بالصيد، أي أنهم يتصيدون الحجيج لإكرامهم، وإذا ما يممنا أنظارنا صوب أم القرى رأينا القصة الحقيقية ولب القضية الذي قامت عليه دولة التوحيد، دولة أعزها خالق الأكوان بالبيتين، فترى حكامها وشعبها يتسابقون لخدمة البيتين دونما كلل أو ملل أو إحساس بالفضل، بل إحساس بالفخر والشكر لأن الله جل وعلا حين يختار قوما لخدمة بيته فاعلم أن ذلك لحكمة ومعرفة منه سبحانه بأن هؤلاء القوم هم خير من يخدم هذا البيت وضيوفه، فأهل هذه البلاد عموما وأهل مكة المكرمة خصوصا يمثل لهم الحج قدسية وشرفا لا يماثله شرف وفخر لا يقارعهم فيه أحد.
وقد جرت العادة عند أهل مكة أن يخرج رجالهم وأبناؤهم لأداء الفريضة أو خدمة الحجيج حتى إن من يتخلف عن ذلك ينظر إليه وكأنه قد ارتكب خطيئة أو جرما يستوجب الذم، وكانت النساء يخرجن في يوم عرفة إلى الحارات متسلحات بالعصي، ويحرسن بيتوهن من أي دخلاء، ويتصيدن من يتخلف من الرجال عن ركب الحجيج ويوبخنه، وقد يضربنه بالعصي وهن ينشدن أهزوجتهن الشهيرة «يا قيس يا قيس» التي حكتها كل والدة من أهل مكة لأبنائها، ولذلك سمي يوم عرفة وليلة العيد عند أهل مكة (بالخُليف)، واليوم ومع التطور العمراني الذي شهدته مكة وأحياؤها والأمن الذي تشهده هذه البلاد ولله الحمد في ظل قيادة لا تألو جهدا لجعل مكة في مصاف دول العالم الأول، بادرت بمشاريع الإنشاءات والنقل والتسهيلات والخدمات أصبحت عادة القيس والخليف قديمة، واستبدلت من النساء المكيات بالذهاب إلى الحرم المكي، فتجد معظمهن يتسابقن للإفطار بعد صيامهن يوم عرفة في الحرم الشريف، ثم يتجهن إلى بيت إحداهن ويسهرن حتى تناول طعام العشاء منتظرات عودة الأحباب من الأزواج والأولاد بعد مرابطتهم ومبيتهم ليالي عدة في المشاعر المقدسة، ولذلك فعيد أهل مكة مختلف عن سائر البلدان، فالعيد لديهم حين يعود الأزواج والأبناء إلى أحضان أمهاتهم وأزواجهم فرحين بتمام الحج وهم يرون الحجاج قد أدوا نسكهم وأتموا فريضتهم، متأملين أنهم قد أرضوا ربهم بخدمة ضيوفه وزوار بيته، وما قصة أهل مكة التي ذكرت إلا قصة كل أهل هذه البلاد الطاهرة وحكامها.
ختاما أسأل الله الذي تعالى في عليائه وسمائه أن يوفق أهل هذه البلاد حكومة وشعبا وعلى وجه الخصوص من يتواجدون بالمشاعر المقدسة في هذه الأيام من الأمراء والقادة والمسؤولين والعاملين لخدمة الحجيج، وأن يجعله حجا آمنا ناجحا على جميع الأصعدة.