«إنّ حزنًا في ساعة الموت أضعاف سرورٍ في ساعة الميلاد». هكذا قال أبو العلاء المعرّي ذات يوم. في معنى قلّ أن نجد من يخالفه فيه.
إذ يبدو في الغالب أن العالم يسير على النحو الذي زعمه. فإزاء كل سرور تجود به الحياة تجرِّعنا أضعافه من الحزن والألم. فهل الأمر متعلق بطريقة جريان العالم بالفعل، أم هو متعلق بطريقة إدراكنا له وتفاعلنا معه؟
رغم أنّ علم النفس الحديث يوافق على النتيجة التي يصفها بيت المعرّي، إلا أنه لا يرجعها إلى أمر متعلق بطريقة توزيع الحوادث في العالم، بل إلى أمر متعلق بتكويننا النفسي.
هناك ما يسمى «انحياز الجزع من الخسارة»، ويعني أنّنا في الظروف العادية أقل قدرة على التقييم المتوازن بين المباهج والآلام، وبين المنافع والأضرار، وبين الآمال والمخاوف.
إننا ننحاز في الغالب إلى تقدير السلبي أضعاف ما نقدّر به الإيجابي.
قد يفوق الألم الذي تتسبب فيه خسارة شيء ما، ضعف البهجة التي أحدثها ربحه من قبل في نفوسنا. فكّر في المبلغ الذي تجزع لخسارته، ثم قارن شعورك بما تظن أنك ستشعر به عند ربح ما يعادله!.
حساسيتنا تجاه الأشياء السلبية تفوق حساسيتنا تجاه الإيجابيات. هذا ما يجعلنا نتنبه سريعا إلى كل ما نشتبه بوجود الشرّ فيه، وهو أيضا ما يجعل المواقف المؤذية أكثر علوقا في الذاكرة من غيرها. ولعلّ هذا ما قد يجعل انتشار الأخبار السيئة أسهل من انتشار الجيد منها بين الناس.
ربما كان الأمر متعلقا بآليات تكيّفية حوتها أدمغتنا منذ أزمان سحيقة، عندما كان من الممكن أن يدفع أحد أسلافنا حياته مقابل خطأ بسيط خلال عملية صيد أو جمع ثمار.
تتابعت أبحاث علماء النفس ودراساتهم في بحث هذه الظاهرة، ومن ذلك ما قام به العالمان «بول روزن» و»إدوارد روزمان» من تجارب خلصت إلى خطورة آثار هذا التحيز الذي كثيرا ما نندفع وراء إملاءاته بشكل بدائي ربما لا يكون في مصلحتنا دائما.
في حملة لاكتشاف السرطان المبكر، وُزّع على سبيل التجربة منشوران، يقول أحدهما: «اذهبي سنويا لفحص سرطان الثدي، إذ يمكنك علاجه عند اكتشافه بشكل مباشر».
بينما قال الآخر: «عندما لا تذهبين لفحص سرطان الثدي، فأنت تخاطرين بألا يُكتشَف السرطان ويُعالَج في الوقت المناسب».
تضمّن كلا المنشورين أرقام الاتصال من أجل الكشف، ورغم ذلك تبين أن المتصلات من قارئات المنشور الثاني كُنّ أكثر بشكل فارق من المتصلات من قارئات المنشور الأوّل!
ليس لأن المنشور الثاني تضمن معلومات أكثر عن المرض، بل فقط لأنّه استعمل لغة تخاطب في المستهدفات ذلك التحيز الجانح إلى «الجزع من الخسارة»!.
هذا يعني أن احتواء أدمغتنا على هذا التحيز -وإن كان مفيدا من أجل بقائنا ذات يوم- إلا أنه بات يعرضنا الآن لمخاطر أعلى، لأنّه ربما يتسبب في وصول بعض البيانات المضللة المؤثرة على قراراتنا، في الوقت الذي صرنا نحتاج فيه إلى أن نكون أكثر دقة.
فالعصر بات عصر الأفكار المتسعة والحسابات المعقّدة، لا عصر الحدس المستند إلى بساطة الأطماع والمخاوف.
ربما يكون من المُجدي اليوم أن نعود -في ضوء ما بتنا نعرفه من العلم الحديث- إلى تطبيقات القاعدة التراثية المشهورة «درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».
ربما بتنا أكثر استيعابا لأسباب جريان طبيعتنا البشرية كثيرا نحو المبالغة في تقدير أمر المفاسد والجنوح إلى الغلوّ في ذلك أحيانا، مقابل التهوين في آثار المصالح المتوقعة في كل مستجد.
ولكن، أليس من المفترض اليوم -بعد أن صرنا أكثر وعيا بتحيز «الجزع من الخسارة»- أن نعرف أن كثيرا من الحذر ربما يكون هو الضرر عينه، وليس الخطر المُتوَهم المبالغ في تقديره أحيانا؟ ذلك الحذر الذي لا ينجلي أحيانا إلا عندما نصل إلى حال تشير فيه المعطيات إلى أن الظروف «خسرانة، خسرانة».