كان الحج وهو ركن الإسلام الخامس من أقدم العبادات السماوية التي عرفتها البشرية، بعد أن دعا إليه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وأسس لتلك الغاية أول بيت مبارك وضع للناس بمكة المكرمة. وكان العرب في مختلف عصورهم السابقة للإسلام يقومون بتأدية تلك العبادة الدينية الممعنة في القدم على صورة تناسب فطرتهم، وتتمشى مع جاهليتهم.

وعندما جاء الإسلام، وفرض عبادة الحج على معتنقيه دخلت تلك الشعيرة الدينية التاريخ من أوسع أبوابه. فشُدّت لها الرحال، وجُهّزت من أجلها الركوب (الركبان) والمحامل. فقطعت لذلك المسافات الشاسعة المقفرة لتأدية تلك الفريضة الدينية، رغم ما كان يعتريها من صعوبات ومشاق.

وكان المسلمون قبل عهدهم بوسائل المواصلات الحديثة يتجشّمون جميع أنواع المصاعب في السفر من أقاصي الدنيا إلى بيت الله الحرام في كل عام، تحت ظلال الشراع في البحر، وعلى ظهور الإبل في البر. ومنهم من كان يختار المشي إليه سيراً على الأقدام تقرباً بتعبه إلى الله. وليزداد عنده مثوبة وأجراً.

وكان السفر على تلك الحالة وما تعتريه من صعوبات ومشاق، وبما تكتنفه من أخطار يستدعي أن تصحبه زعامة سياسية دينية تُشرف على تنظيمه، وتعمل على حلّ مشكلاته حتى يصبح ذلك السفر الشاق سهلاً وميسوراً على حجاج بيت الله الحرام. ومن هنا نشأ في التاريخ الإسلامي ما عُرف «بإمرة الحج»، وكانت من المهام العليا للدولة، وتُناط بولي أمر المسلمين أو من ينيبه من ذوي الثقة من رجاله الأوفياء؛ فقد قام بها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وتلاه في ذلك الخلفاء الراشدون، ومن تبعهم من خلفاء المسلمين وملوكهم إما بأنفسهم، أو بولاة قاموا بها من قبلهم، فإمارة الحج إذن من أجل المناصب الإسلامية وأعظم الوظائف الدينية، ولها شروط وواجبات ومهامّ فصّلت فيها كتب المناسك والأحكام السلطانية تفصيلاً بيِّناً، ومن تلك المهام أو الواجبات توفير أمن الحجيج في الطرق الموصلة إلى مكة، وكذا في مكة نفسها، وقيادة الحجاج في أثناء وقوفهم بعرفة، وتنقّلهم في المشاعر المقدسة. وكانت إمرة الحج قوية في العصر النبوي، والخلافة الراشدة، وعصر بني أمية، والشطر الأول من الخلافة العباسية، ثم أخذت في الضعف والاضمحلال في العصور المتعاقبة حتى أصبحت الرحلة إلى الحج محفوفة بالمخاطر، بل كانت في بعض العصور رحلة إلى المجهول، أو رحلة حياة أو موت، لما يتعرّض له فيها الحاج من ضروب النهب والسلب وحتى الموت عطشاً، في طرقات موحشة عبر صحارى جرداء لا ماء فيها ولا شجر ولا مخافر أو حراسات أمنية، ما عدا ما كانت تدفعه بعض الأنظمة من خفارات للقبائل المتربّصة بالحجاج، وهم في طريق رحلات العذاب إلى مكة. أما في مكة نفسها فكان الحاج يعاني الأمرين من سوء المعاملة والاستغلال، وتحميله ما لا يطاق من دفع الضرائب والمكوس، وإلا تعرّض لصنوف من التعذيب، والإيذاء البدني والنفسي على حدّ ما يرويه ابن جبير صاحب الرحلة المشهورة (رحلة ابن جبير، دار بيروت: 1399، ص 54-57).

فلما منّ الله على هذه البلاد بنعمة الأمن والأمان، وتحققّت وحدة ترابها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل (رحمه الله) عادت إلى إمرة الحج قوتها، وحيويّتها وفاعليّتها، وانتظمت بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بمباشرة ملوك المملكة العربية السعودية لها بأنفسهم بدءًا من عهد الملك المؤسس الذي ضرب بيد من حديد على أيدي اللصوص، وقطاع الطرق، وأبطل ما كانت تأخذه القبائل على الحجاج من الخفارات، وما كانت تأخذه الدول المتعاقبة على حكم مكة من رسوم. ثم توالى ملوك آل سعود على مباشرة هذه الإمرة بأنفسهم حتى وصلت إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله)، الذي قام ويقوم بها خير قيام، ونهض بها وبمرافقها نهوضاً غير مسبوق.

ففي مكة لم تعد إمرة الحج متمثلة في قيادة الناس في أثناء الوقوف بعرفة، وفي تنقلاتهم في المشاعر المقدسة، بل تعدّت ذلك إلى تسخير جميع إمكانات الدولة البشرية وغير البشرية لأمنهم وراحتهم، وتنقلاتهم وإقامتهم وعلاجهم ووقايتهم من الأمراض، وضيافة قطاع كبير منهم على نفقة ملوكها، وتسخير جيش كبير من موظفي الدولة في مختلف الاختصاصات لتوفير جميع متطلبات الحجاج، منذ أن تقع أرجلهم لأول مرة على أرض المملكة عبر منافذها البرية والبحرية والجويّة، حتى يغادرونها إلى بلادهم، فأصبحت الرحلة إلى الحج ليست رحلة موت أو شقاء ومعاناة بل هي رحلة حياة وعبادة وراحة واستجمام، ناهيك عن كونها رحلة علاج لكثير من الحجاج الذين تطلبت حالاتهم المرضية إجراء أكبر العمليات وأعقدها لمن يعاني منهم من مختلف الأمراض بما فيها الأمراض القلبيّة، وبلغ من اهتمام الدولة السعودية بأمن الحج وراحة الحجيج أن خصّصت في هذا العام رياضاً للأطفال تستقبل فيها أطفال الحجاج في تواريخ محددة حماية للأطفال أنفسهم من مخاطر الازدحام والضياع، وحتى يتفرغ آباؤهم لتأدية مناسكهم في يسر وسهولة وراحة بال.