الأمران معا، الصدمةُ الحضارية والانهزام الثقافي، كانا قد فعلا فعلتهما في أشتات من الشباب السعودي بدايةً من منتصف السبعينات من القرن الهجري المنصرم، وألجأتهم إلى اعتناق أفكار متضعضعة كانت الدعاية لها تملأ الأثير الإذاعي في ذلك الوقت، حيث كان هو وسيلة الإعلام الأشد قوة وانتشاراً، وأخص الفكر القومي البعثي، ثم تلاه القومي الناصري، وسبقهما إلى الوجود الفكر الماركسي اللينيني والماوي، والذي تسرب إلى قلة من الشباب عبر مثقفين عرب دخلوا إلى السعودية بقصد العمل، وكانت المعارضة للنظام الحاكم هي المشترك الأقوى بين هؤلاء الشباب الذين تورط بعضهم في أعمال إجرامية، وصلت إلى التخطيط لانقلاب عسكري والهروب بطائرة حربية وتسليمها لنظام معاد يخوض إذ ذاك مع السعودية حربا حقيقية، مما اضطر الآخرين إلى الصمت المطبق أو الانهزام إلى خارج الوطن حتى نهاية التسعينات وبداية القرن الحالي، حيث عادوا جميعاً ليعيشوا آمنين في ظل هذا النظام الإسلامي وفي أحضان المجتمع المتدين المسالم.

لكن بعضهم آثر العودة إلى النشاط الثقافي بعد التخلي عن الشعارات القديمة التي ثبت خواؤها عملياً، واستبدلوها بوصفي العلمانية والحداثة، وانضم إليهم عدد أكبر من الشباب الذين كانوا أكثر ثقافة وحكمة في التعامل مع الوضع القائم؛ لكن ثقافة المصطلحات أواخر التسعينات وأوائل القرن الحالي كانت عالية جداً بين المثقفين السعوديين الذين يطغى عليهم التوجه الديني، كما يَتَّسِمُون بالاعتزاز الحضاري، فعرفوا ما وراء مصطلحي العلمانية والحداثة من تراث عقدي وثقافي لا يمت إلى أمتهم ولا إلى بلادهم بصلة، بل يناقض دينهم ويفسد دنياهم، فلم تخدعهم الدلالة اللغوية لهذين المصطلحين عن حقيقتهما المعرفية، بالرغم من محاولات كثيرة لترويج مصطلح الحداثة، خاصة على أنه يعني التجديد والاستفادة من العلوم والتقنية، لكن عملية الاستقطاب عبر هذين المصطلحين كما فشلت بين المثقفين المتدينين فشلت إلى حد كبير بين المثقفين الذين يمكن وصفهم بالأقل تدينا «بحسب الظاهر» لأن النفور من الاتجاهات المعادية للدين أصبحت طابعاً للمجتمع بكل فئاته.

ولعله لهذا السبب اختفى لقبا الحداثي والعلماني اللذين أصبحا مُنَفِّرين جداً، وحل محلهما بعد أزمة الخليج على التقريب مصطلح الليبرالي، ورغم عراقة هذا المصطلح في أصول الفكر الأوروبي المعاصر ووجوده السياسي والثقافي في البلاد العربية، إلا أنه قبل ذلك التاريخ لم يكن رائجاً في السعودية، وقد ساعدت جِدَّة المصطلح وبريقه وخِفَّة حمولته الصدامية والاتساع الشديد في مدلوله على انتشاره، وتبناه دون غضاضة اليساريون والقوميون القدامى والعلمانيون والإسلاميون المتراجعون، وكان أكثر من حاول التلقب به والانضواء تحته شباب ليس لهم أي انتماء أيديولوجي، وكثير منهم ليس لديه اطلاع على الفكر الليبرالي، لكنهم غير مقتنعين بعدد من الأحكام الفقهية المعمول بها في السعودية، أو لديهم اعتراض على بعض المؤسسات الدينية أو التشريعية أو الحقوقية.

كل هؤلاء وجدوا في مصطلح الليبرالي مظلة جامعة لهم، ثم انضاف إليهم تيار جديد يريد الجمع بين انتمائه الديني وتحرره الفقهي والعقدي وتحفظاته السياسية، يروق لكثير منهم أن يوصف بالليبروإسلامي.

هذا الخليط من المختلفين في حقيقة التوجهات اجتمعوا على ضرب الخصوصية السعودية التي عمدوا إلى إنكارها، وذلك عبر أدوات عدة، من أبرزها النقد المتعاقب لاستمرار التحالف السياسي الديني، والذي صرحوا كثيراً بعدم احتياج الدولة إليه، وهو مطلب لم يَنْصَعْ متخذو القرار إليه رغم استقوائه بضغوط دولية من بعض الدول الغربية ومؤسسات الأمم المتحدة التي لا تزال تحاول ثني المملكة عن تحفظاتها على ما يخالف الشريعة من الاتفاقيات الدولية في مجالات المرأة والطفل والمجتمع والحقوق والحريات، وتتمسك السعودية بهذه التحفظات بقوة تثير إعجاب الناصحين، لكنها للأسف تُقَابَل بضغط إعلامي داخلي متوافق مع الضغط الخارجي من قبل هذا التحالف الليبرالي غير المكتوب، والذي لا يزال يُصِر على ترديد النغمة نفسها التي يرددها عدد من الدول الغربية ومؤسساتها العلمية والسياسية والاجتماعية من مسؤولية الفكر السلفي الذي بُنِيَت عليه الدولة عن الإرهاب العالمي، ولذلك ذهب هؤلاء الليبراليون فترة من الزمن إلى ضرورة أن تبتعد الدولة بنفسها عن الفكر السلفي، وبعد قانون جاستا ومن بعده التغيرات الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية تجرؤوا بالذهاب إلى أبعد من ذلك، وهو أن تتخلى الدولة عن الدين بالكلية وتصبح دولة علمانية.

والدعوة إلى علمنة الدولة والتي جاءت في الأيام الماضية صريحة إلى درجة مزعجة لم يتخل أصحابها عن التلبيس ومزاعم إمكان تواؤم العلمانية مع الإسلام، وهي مزاعم أقول عنها كاذبة حين ينادي بها العلمانيون، لكني أقول عنها فاجرة حين ينادي بها بعض من يحسبون أنفسهم على التوجه الإسلامي، أو يوهمون المتلقين أنهم يتحدثون باسم الدين ليحرفوا فيه ويكذبوا على الله تعالى من أجل مكاسب سياسية رخيصة ?فَوَيلٌ لِلَّذينَ يَكتُبونَ الكِتابَ بِأَيديهِم ثُمَّ يَقولونَ هذا مِن عِندِ اللَّهِ لِيَشتَروا بِهِ ثَمَنًا قَليلًا فَوَيلٌ لَهُم مِمّا كَتَبَت أَيديهِم وَوَيلٌ لَهُم مِمّا يَكسِبونَ?

ويأتي مصطلح الإنسانية كمزدلف جديد لترويج العلمانية، والباحث في تاريخ هذا المصطلح يجد أنه تم إطلاقه في القرن التاسع عشر على كل الحركات التي ناهضت الكنيسة في بداية عصر النهضة الأوروبية بقصد إصلاحها كحركة بترارك «1374م» ومرسيل فيسين «1439م» التي شرعت في إحياء التراث اليوناني، ومحاولة إدخاله في التعليم الديني، وحركة كالفن «1509» وزونجلي «1531» ولوثر «1546»، ثم أطلقت على الحركة الربوبية في أوروبا والتي تنكر الأديان بشكل كلي، ثم أصبحت تطلق على كل الحركات التي تحارب مرجعية الدين في كل شيء في الأخلاق والسياسة والقانون لتجعل من الإنسان والإنساني وحده مرجعا لكل شيء في الحياة، ولذلك عبر عنها آرنست رينان في محاوراته الفلسفية بأنها عبادة كل ما يتعلق بالإنسان.

وفي الوقت الحاضر تطلق الإنسانية كما ألخصها عن ستيفن لو في كتابه مقدمة قصيرة في الإنسانوية كوصف جامع لكل من يعتنقون مبادئ عديدة تجعل الإنسان والعقل والمنفعة فوق أي دين وأي عرف مهما كانت قداسته.

إذاً فالإنسانية مصطلح أكثر من العلمانية إلباساً، وأكثر شراسة في مواجهة الدين، والزعم بأنه يعني الأخلاق الفاضلة والتسامح الديني والمذهبي لا يؤيده تاريخ هذا المصطلح ولا مدلوله اللغوي، ولم يكن الإنسان مجرداً عن أي اعتبار آخر معياراً لأي شيء، بل إن طبيعته المجردة ميالة إلى الجحود والكفران والظلم والطغيان، كما تشهد بذلك آيات عديدة من كتاب الله، يُصَدِّقها تاريخ البشرية العام الذي لا يثبت وجود أي حقبة زمنية أوُكِل الإنسان فيها إلى نفسه فكون مجتمعا مثاليا أو نظيفاً، وكل الفترات القصيرة التي استطاع البشر فيها الوصول إلى حِقَب نظيفة نوعاً ما إنما كانت تحظى فيها بسلطة دينية أو سياسية أو عرفية قوية، وما سوى ذلك فهو أزمان طويلة لا توحي بمرجعية أخلاقية ذاتية من الإنسان لنفسه.

وأخيراً أحب أن أسجل استغرابي الشديد من الأنفة العجيبة وغير المبررة من الانتساب إلى الإسلام في المجال السياسي والإداري والأخلاقي والمعرفي.