العطالة والفقر والمرض والجريمة والجهل والحاجة إلى القوة والأمن والاستقرار والحفاظ على الدولة، والتخلص من الصراعات المفضية إلى العنف، هي من المشكلات التي تواجه أي دولة في العالم، وقد تبنى علاجها عبر التاريخ أفراد وجماعات لتقديم الحلول وصنعت لأجلها معتقدات، فظهرت الشيوعية بحجة الانتصار للطبقات المسحوقة، فانتقلت الفكرة إلى أنظمة سياسية، وتحول الساسة الشيوعيون بدولهم وبكل علومهم ومقدراتهم إلى القمع والفقر، وسقط المشروع وتراجعت التنمية والمؤسسات العلمية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتراجع اقتصاد روسيا، ولم يكن ليعود سريعاً لولا النفط والغاز، فانتقلت الدول الشيوعية في نهاية المطاف وبسبب حاجتها إلى التنمية إلى الرأسمالية. وقد ظهرت النازية فاستغلت مقدراتها التنموية والعلمية بحجة استعباد الشعوب «الأدنى»، فانتهت بالركوع، ولم تزدهر ألمانيا إلا عبر إجبارها على الانشغال بالتنمية والعلم بعد مشروع مارشال، والذي افتقدته العراق بعد الاحتلال لتصبح تحت رحمة الإيديولوجيا الشعبوية.

لم يستمر ويستقر ويزداد قوة إلا المنشغلون بالتنمية والعلم في النموذج العالمي الجديد، وبالقدرة على المرونة والتكيف والتناغم مع المعطيات بثوابت نافعة للناس، دون أن يتحول النجاح التنموي والعلمي إلى وسيلة تخريب إيديولوجي كما فعل التطوريون الألمان بتحولهم إلى نازيين يرون الشعوب الأدنى حيواناتٍ متطورة مقابل صعودهم في أعلى سلم التطور، وهو ما انقلب بعد سقوط النازية إلى قمع أكاديمي أخلاقي بارد لأي تفسيرات تطورية خوفاً من عودة النازيين الجدد.

صعود أميركا كدولة عظمى متكاملة جاء بعد انشغال الدول العظمى متعددة الأقطاب كبريطانيا وفرنسا وألمانيا بجنون العظمة والتفوق والاستعمار التقليدي، وكان في صالح أميركا التي انشغلت بحكم معطياتها بالعلم والتنمية والفلسفات الواقعية والبراجماتية لتجد نفسها مضطرة للدخول إلى الحرب ولتستمر من بعدها حتى اليوم، رغم ما لها وما عليها بقيادة مشاريع التنمية والعلم وبالقدرة على التغير والتكيف.

انشغال دول الجزيرة العربية بالتنمية مع حسن استثمار فرصة النفط والعمل على تعلم أبنائها، جعلها أكثر قدرة على البقاء والاستمرار مقارنة بالدول العربية التي نهضت، ولكن سقطت تحت رحمة تقديم الإيديولوجيا الشعبوية على الحياة، لتجد السعودية نفسها قائداً ضرورياً للمنطقة، وما زال أمامها الكثير من فرص التقدم والإصلاح.

كلما تراجعت فرص التنمية والتعلم تعرضت الدولة للتهديد، كما حدث في بداية الثمانينات بعد أن أصبحت فئات كبيرة من الشباب لقمة سائغة للحركات والأحزاب الاستقطابية التي ارتدت عباءة الإسلام، واستغلت العاطفة الدينية النبيلة، وتبنت تصورات شمولية معزولة عن الواقع لا تخدم مصلحة الإنسان، وهو ما تراجع اليوم مع الاستمرار في هزيمة الإيديولوجيا الشمولية.

إرسال أكثر من ربع مليون مبتعث، وانشغال مئات الآلاف من الشباب بالدراسات العليا، وانحسار الأمية بنسبة

لا تزيد عن 5% مع الإقبال على فرص العمل والمشاركة في التنافس التنموي وانشغال غالبية الشباب السعودي بالنقاش، إضافة إلى الوعي بالتجارب الشعبوية الفاشلة، واستمرار صعود الوطنية، وتنامي قوة الدولة مع الإعلاء من الحاجة للتنمية، كان لها دور كبير في زيادة إقبال المجتمع السعودي على الانفتاح والتعددية والتنوير في زمن قياسي، وهو ما يمثل في مجمله قاعدة انطلاق لمزيد من النجاحات. ورغم ذلك لا يزال تقدماً سطحياً لاستمرار وجود المراجع الشعبوية، وهي التي تتشكل مع التغيرات السياسية إلى توجهات تركب الموجة السائدة بأقنعة جديدة، مما يزيد الحاجة في التجذير الثقافي لمشاريع التنمية والعلم.

انشغال الغرب بالعلم في القرن السابع عشر وتخليه عن الحروب الصليبية التي أشغلت بدورها العرب عن ازدهارهم، ومكنت العجم منهم في عصور الانحطاط، كان أيضا هو السبب الذي جعل الغرب يعود إلينا من خلال الاستعمار وهو يسبقنا تقدماً لبضعة قرون، ورغم ما في استعماره من مساوئ، إلا أنه انعكس إيجاباً بسبب علومه وتنميته، فلولا اكتشاف بريطانيا للنفط وانشغالها باستقرار وتنمية بعض الدول المستعمرة، وإن كان طمعاً في ثرواتها وتوسيع نفوذها، لما تقدمت دول عربية كثيرة وعلى رأسها ممالك الخليج، سواء كان بالاستعمار أو باستلهام التجارب، وهو ما انعكس في مشاريع اكتشاف النفط والتوجه للدولة الحديثة، وهو نفس العامل الذي أسهم في نقل سنغافورة من محطة قوافل بريطانية إلى إحدى أرقى دول العالم، وقد كان التحالف مع الدول المتقدمة تنموياً من أسباب تقدم كوريا الجنوبية التي تعاونت مع الأميركيين وتلقت علومهم وتنميتهم لتصبح إحدى أعظم الدول الصناعية وأكثرها تقدماً مقارنة بكوريا الشمالية التي اختارت الإيديولوجيا الشمولية، وتخلت عن التنمية الشاملة. حتى الصين استفادت من هذه التجارب، وقررت الانعزال عن الصراعات العسكرية، والتخلي ما أمكن عن سطوة المعتقدات الشمولية، ولم تستعجل في استعادة ما تريد، ووجدت نفسها تنتقل من الشيوعية إلى الرأسمالية دون تعنت أمام حركة التاريخ، وكان ذلك مقابل تحقيق أهدافها التنموية والاقتصادية، مما جعلها أكثر قدرة على إنقاذ ملايين الصينيين من الفقر والمرض والجهل والجوع.

الفراغ يجعل الإنسان لقمة سائغة لأول فكرة تحتل عقله، فالإنسان بطبيعته لا يتحمل الفراغ، وإذا انشغل بالتنمية والعلم وجد أنه تلقائياً أقل تجاوباً للشعارات الشعوبية قصيرة المدى والتي تنسى متطلباتها الإنسانية الضرورية.

لا بد أن تنشغل بلادنا طوال العقود القادمة بالمزيد من دعم مشاريع التنمية والعلم، وأن نستمر كجزء من المنظومة الدولية الفاعلة، وأن ننمي أكبر قدر من الكفاءات، لأن الكم يولد الكيف، وألا نستعجل على تقادم الخبرات، وأن نستمر في ترسيخ قيم المواطنة باعتبارها السد الأمني الذي لا يجب أن يتخلى عن التناغم مع العالم، ودون الانجراف في تحويل مكتسباتنا ومقدراتنا إلى إيديولوجيا شعوبية عبثية، وهو ما يجعلنا أقوى وأقدر في حماية مكتسباتنا، والدفاع عن مقدساتنا، وحماية معتقداتنا، وإثراء هويتنا بعيداً عن التجارة بالدين أو الإيديولوجيا والتي لم ولن تثبت نفعها لمصلحة الإنسان في كل زمان ومكان.