كان متعلقاً بالجهاد في سبيل الله في بداية شبابه، ولم يكن يرغب في الدنيا، وتعلقه ارتكز على الآخرة، ولا أظنه كان متعلقاً بالجهاد نفسه أكثر من كونه متعلقاً بالشهادة التي ينال عن طريقها الحور العين، فمرحلة المراهقة حرجة، جل أماني المراهق فيها تتمحور حول الرومنسية.
كان مع أمه يشاهد التلفاز، وهو في آخر سنوات دراسته الثانوية، وقد خرج شاب في التلفاز يلقي وصيته الأخيرة، ونفذ عملية انتحارية بعدها فانتحر أو استشهد أو قُتل، كل المصطلحات هنا تتشابه، فتمنى أن يكون ذاك الشاب، والعجيب أنه اكتشف بعدها أن ذاك الشاب لم يكن أساساً من أهل السنة.
بدأت حياته بعدها بالتغير، حفظ القرآن، وأكمل دراسة الشريعة، وأصبح إماماً للمصلين، وواعظاً للمستمعين، ومحدثاً على المهتمين، فلا يقدم للإمامة غيره، ولا يسأل عن الدين إلا هو، وتفتح له الأبواب، ويقدم في صدر المجالس رغم صغر سنه حينها. كان تقديم الناس ومدحهم له يزعجانه، ويفرحانه في نفس الوقت، فخوفه من الرياء اختلط مع تعلقه بالسمعة.
قرر السفر لإكمال دراسته في الخارج، وتعلم فن اللغة، وأصبحت أكثر قراءاته في الكتب التي لا علاقة لها بالعربية، وتبدلت أفكاره، وأصبح ينظر إلى الدنيا بشكل مختلف، وبطريقة لم يعهدها من قبل، وكأنه كان في كهف مظلم طوال تلك السنين، وبعد أن بدأ بقراءات الكتب التي كان قد منع منها خرج من الكهف المظلم، وتجلت له الشمس بنورها العظيم.
كان يتخيل أحياناً لو أنه لم يتعلم اللغة، ولم يقرأ تلك الكتب، ولم يخالط الثقافات، ولم يطلع على الحضارات، ولم يواكب آخر ما توصل له العلماء من علومٍ، واختراعات، ماذا ستكون حاله؟ أعتقد أنه في أفضل الحالات سيظل جاهلاً، مستبداً برأيه متحاملاً على كل من يخالف طريقته المثلى، مؤمنٌ بنظرية المؤامرة، مناصرٌ لمن يقطعون الرقاب، ويرهبون الناس.
تمنى حينها لو يبتعث كل من في وطنه للدراسة في الخارج، ويفرض تعلم اللغة على جميع الناس، ويجبر الناس على قراءة الكتب التي تم تحذيرهم منها قبل الحكم المسبق عليها، ففي اعتقاده أن الفكر عندنا يحتاج إلى إعادة هيكلة، وإعادة تأهيل، وجلسات كهربائية مكثفة، وفي ظنه أننا لن نستيقظ جميعاً لو طبقنا هذا كله، ولكنه على أمل أن تستيقظ الأجيال القادمة.
هو على يقين بأن الإسلام بريء من كل هذه الأفكار التي أوجدوها، ومن كل هذه الأفعال الوحشية التي ألصقت به، فالمتهم في اعتقاده هم من روجوا لهذه الأفكار والأفعال لأغراض نابعة من النقص الذي اعتلى بعض العقول التي تنظر إلى الدنيا بنظرة مبنية على مصالح شخصية، وبعين قاصرة غير منطقية، وبقلوبٌ تعتريها الكراهية.
تذكرون ذاك الذي يقدم للإمامة، ولا يُسأل عن الدين إلا هو، وتفتح له الأبواب، ويقدم في صدر المجالس؛ سقط ملكه، وذهب سلطانه، وتخلى بإرادته عن عرشه.
من المحزن أن تكون المظاهر هي من تحكمنا، وأن يكون بائعوا الدين بالدنيا وباطلها هم من يتصدرون مجالسنا، وأن يتكلم في أمور الدنيا من لا يفقه إلا في أقوال الفقهاء رغم وجود المختصين كلٌ حسب تخصصه، وأن تكون العواطف هي التي تحكم، وتتحكم في قراراتنا.
ومن المحزن أيضا أن يكون فينا سذج يبتاعون من الزيت والماء بأضعاف سعره لأن من يبيعه عليهم على هيئة شيخٍ ينفث فيهما، ويتسابقون لسؤال مفسر الأحلام عما يرونه في المنام ظناً منهم أنه يعلم حقيقة ما تحمله لهم الأيام، أو ما يجب عليهم فعله بناءً على الأحلام.