لعل الغايات الرئيسية الثلاث المنشودة التي اتفقت على ضرورة تحقيقها الشرائع الدينية والفلسفات البشرية (الحق والخير والجمال)، هي التي تكفل للإنسان العيش في حياة متوازنة مستقرة مطمئنة. هادفة وممتعة معا.
أما الحق والخير، فقد تكفل بهما الدين والعلم، وظل (الجمال) -وجودا وتلقّيا- غاية تنفتح على شواهد عدة. فنية ومعرفية وإنسانية بتجليات مختلفة، تتجاوز بها الغايات النفعية إلى غايات تحقق الإمتاع واللذة والسمو فوق حاجات الجسد الإنساني، إلى عالم تجد فيه الروح المتعالية أسباب طمأنينتها وتجليها ونشوتها.
الإحساس الجمالي ينبثق من الانهماك الغامر في الفنون السمعية والبصرية والذهنية، كما أنه يتجلى في اللحظة التي تقرر فيها الذات التحرر من أتونها الضيقة، للانفتاح على تجارب الآخر المختلف في معطياته الثقافية الحضارية، ولا شك أن الحس بالجمال يشعر به الفرد مبدعا أو متلقيا وهو يقتحم عالما يسمو فوق النمطي والمألوف، ويتخطى القوانين المعيارية التي استكانت إليها الذهنية الإنسانية فترة طويلة من الزمن!، ولكن الملاحظ على الذهنية المحلية تكريس اهتماماتها على استحقاقات الخير والحق وإغفالها (المؤكد) لحاجة الإنسان الفطرية في الإحساس بالجمال ولذته وإمتاعه. ذلك الإحساس الذي يفضي إلى تألق الذهنية وإشعال وهجها للاشتغال المطمئن الواثق على مقاربة قيمتي الحق والخير!
اللافت للنظر -بمرارة- أننا ننظر بريبة إلى (الموسيقى) التي قال عنها فلاسفة الوجود إنها إيقاع العالم الذي يبرز فيه الاتحاد الأقصى بين قوى الإدراك وقوى الخيال، اللتين تنتجان القيم الجمالية العليا، كما أننا على قطيعة تامة مع فن السينما، ونضعها دائما في خانة (التابوهات) المحرمة، بعد أن استسلمت شريحة كبرى لهيمنة خطابات انفعالية قوية، قررت إقصاء ذلك النشاط خارج الفضاء المحلي كله!
ثم، هل يعرف مجتمعنا فناني الرسم والنحت والتصوير الذين زخرت بهم الثقافات العالمية. كم عدد الذين يعرفون دافنشي وأنجلو؟ أو حتى أقرانهم في مشهدنا الفني المحلي المعاصر؟!
أما (سحر) اللغة الشعرية الخالصة، فإننا لفظناه عندما جاءنا خالصا حلالا من إنتاج دنقل ودرويش وأدونيس والحاج، أما الذين صاغوه حرا خالصا في فضائنا الأدبي المحلي فإننا واجهنا (جمالهم) بالعنف والنبذ والتجريم والتكفير. عندما اتفق متخرصون بدهاء رخيص على إقناع العامة بأن هذه الممارسات اللغوية الجميلة تقف على طرفي نقيض مع المبادئ الإسلامية!
هل تعرفون أن صاحب أعظم ديوان شعري عرفته بلادنا، كُرّم -بمصادفة تاريخية- بواسطة متذوقين خالصين للجمال في (برحة) مخطط سكني!، هروبا من أوصياء الفضيلة وأعداء الجمال. بعد أن عرف المخلصون حينها أن المسألة لا تستبعد حدوث عنف وإيذاء جسدي حقيقي، لشاعر كان وحده سيدا للبيد في أرضنا.
الشاعر محمد عواض الثبيتي! وفي الاتجاه المعادي للجمال ذاته، كان مصير العلي والدميني والحربي وبقية الجميلين الآخرين!، كما أن جنس (الرواية).. الأكثر تعاطيا -الآن- في آداب العالم الجمالية، لقيت من الصدود والجفاء ما لقيه (الشعر)، مما حدا بالبعض إلى تجريم رجاء عالم وتركي الحمد وعبده خال (كذلك) ممن اقتربوا كثيرا من حمى (الرواية) الخالصة ذات الأبعاد الجمالية الوارفة!. أما الإحساس الجمالي الذي يشعر به الفرد، عندما يتخطى حدود زمانه ومكانه الضيقين، لمعرفة ما يدور هناك.. حيث الآخر المختلف، فلم تكن للذهنية الجمعية لدينا نصيب منه، بعد أن جعلنا ذلك الآخر عدوا يتربص بنا، و(كافرا) تجب البراءة منه، ولذلك (حرمنا) من الاستجابة للآثار الجمالية في ثقافاته وفنونه.
أما الأكثر حسرة، فهو موقف البعض في محاولته تجييش البعض الآخر ضد النبع الأكبر إثارة لانبعاثات الجمال.. (الكتاب)، ألا يحدث ذلك كل عام في الاحتفاء السنوي بتلك الانبعاثات الجمالية التي تستجيب لها الحواس الطبيعية، وهي تجوس بين عناوين من الإثارة والتشويق والتعدد داخل معارض الكتب (السنوية)؟!
هل نعتبر -كذلك- أن المرأة قيمة جمالية عليا، عطلها الكثير لدينا بالنظر إليها من خلال بعد مادي واحد، يتقصد الحاجات النفعية دائما؟، الأمر الذي حولها من (ذات) إلى (موضوع)، تكون فيه هدفا لحالات نفسية مرتبكة، حبست هذه (الذات) في أتون ضيقة تمنعها من ممارسة حقا في الحياة، بل وتمنع بكل السبل (الاختلاط) بها، أو حتى (مصادفتها) في مكان..!
وبعد، فلا يكفي -على الإطلاق- تلك البدائل التي حاولت نسج أردية واهمة للجمال على مقاس رؤيتنا المؤدلجة للظواهر.. لا يمكن أن نتلمس -على سبيل المثال- أية قيم جمالية في شعر (وعظي) ساكن أو (شعبي) صارم، لا يمكن أن تكون تلك (الشيلات) البائسة حلا مناسبا عن غياب (موسيقى) إيقاع الكون!. (الحق والخير والجمال) منظومة متسقة واحدة، لا تؤتي (أكلها) وتنتج ثمارها بغياب أحدها.