في أعقاب التغريدات المسيئة طائفيا في وفاة الفنان الكويتي عبدالحسين عبدالرضا –رحمه الله- جاء إعلان النائب العام في المملكة أن النيابة العامة أصدرت أمرا باستدعاء مجموعة من المغردين، بسبب «انحرافهم إلى وجهة التشدد والتطرف، وإثارة نعرات الكراهية والطائفية والتصنيفات الفكرية والمذهبية». وجاء كذلك تصريح المتحدث باسم وزارة الثقافة والإعلام عن إحالة أصحاب تلك التغريدات الطائفية إلى لجنة مخالفات النشر.
وتصريح الجهتين يثير قدرا عاليا من الاستبشار والتفاؤل بالعلاج الحاسم لداء الطائفية وما يشبهها من تمركزات فئوية تهدد أمن المجتمع، الذي تقوم وحدته وسلمه الأهلي داخليا -كأي مجتمع إنساني- على التنوع والاختلاف الذي تشعر فيه كل المكونات الاجتماعية بالاحترام المتبادل بينها، ويقوم على ذلك الشعور بالاحترام المتبادل أيضا، تعايشه وأمنه مع غيره من المجتمعات.
وهناك أكثر من سبب لذلك التفاؤل:
أولها، التهديد الكامن في الإساءات الطائفية والعنصرية وما في مدارهما، للدولة بوصفها كيانا يجسد معنى الوطن ويجمع شتاته. ذلك أن إساءات من ذلك القبيل لا تسيء إلى فئة أو فرد ينتمي إلى الوطن من دون أن تمس معنى الوطن الذي ينتمي إليه، ولا تصدُر من المسيء لوحده، إذا لم تُجرَّم إساءته، بل تبدو وكأنها تصدُر من الوطن ضد نفسه، ممثَّلا في بعض أجزائه ومكوناته.
وهذا التهديد يماثل تماما ما يتعرض له الانتماء إلى أي مظلة للمجموع، فالإساءة العنصرية من إنسان إلى آخر، هي إساءة إلى معنى الإنسانية التي نصفه بها، وإذا لم تتضمن الإنسانية بوصفها قيمة، التجريم لتلك الإساءة، فإنها لا تبدو -عندئذ- ضد الإنسانية بل طبيعية ضمنها.
ومثل ذلك الإساءة باسم الإسلام أو أي دين آخر، فإذا أساء مسلم إلى مسلم آخر إساءة طائفية، فإن إساءته لا تصدر عنه كفرد، بل تصدر عن الطائفة التي ينتمي إليها إذا لم تُجرِّم إساءته، بل عن الإسلام في مجمله إذا لم يُصَن الإسلام عن إساءته بالعقوبة له.
والمحصِّلة من ذلك هي عدم نجاة أحد في أي كيان اجتماعي يسمح بالممارسات الطائفية والعنصرية من بعض مكوناته ضد أخرى، بل من فرد ضد آخر، لأن جريرة أي إساءة من هذا القبيل وبلواها محسوبةٌ على المجموع -فاعلا للإساءة ومفعولا بها- دولة وديانة وطائفة وقبيلة وعرقا ولوناً وجماعة إنسانية.
ولا يقتصر الأذى الناتج عن تلك الإساءة على معنى الخزي والعار المعنوي والأدبي أمام ضمير الفرد والمجموع، وليست تهديدا للكيان الاجتماعي، بالمعنى العاطفي والنفسي فقط، بل هي إساءة فعلية محسوسة للمجموع، تتولَّد عنها النزاعات والكراهية المتبادلة والتشفِّي وجو مشحون بالتحاقد والغليان، والتوتر مع الخارج، وتضييق دائرة الوعي الذي ينغلق على الذات وينأى عن الإحساس بالآخرين والانفتاح عليهم.
والسبب الثاني للتفاؤل، أن أي ممارسة بالتمييز ضد المختلف، هي دلالة على خلل في التصور العقلي والنفسي للذات التي تمارس ذلك التمييز: خلل التمركز على صفة تتعالى بها الذات بوصفها فئة أو جماعة على غيرها.
فكل فئة اجتماعية تستحل ممارسة التمييز ضد غيرها، دينيا ومذهبيا، لا تُحجِم عن ممارسته أيضا ضد المختلف عنها في اللون والعرق والقبلية والمناطقية... الخ. والمجتمعات الطائفية تكون مجتمعات عنصرية من كل وجه.
ولهذا فليس للأكثرية والأقلية معنى في حساب خطورة التمييز ضد المختلف دينيا، فاستحلال الإساءة الطائفية أو العنصرية من الأكثرية على الأقلية خطر على مجموع الكيان الاجتماعي والوطني، كما هو خطر إساءة الأقلية إن لم يفقه، لأنها من دون تجريم الكيان الاجتماعي كلِّه لها في إساءتها باسم طائفتها أو عنصرها لغيرها، تؤدي إلى استشراء التمركزات المختلفة وإلى تبادلها المستمر وردود الفعل القائمة على التحقير والتعالي مع المختلفين عنها.
وثالث الأسباب، أنه لا ينفع في سائر أشكال التمييز ضد الآخر، محاججة عقلية أو نقلية، ولا برهنة علمية، ولا مواعظ وحِكَم؛ فحتى حين ينجح التفنيد والحجاج والوعظ في الوصول إلى قناعة وتسليم، فإن السلوك الطائفي والعنصري لا يزول بل يتجدد ويتضاعف من موقع تأويل وتوظيف جديد للقناعات، والشيء الوحيد الذي يكفُّ الشر ويوقف التمييز عند حده، هو تجريمه قضائيا وتحديد عقوبات صارمة تجاه مقترفيه.
هذه الحقيقة هي ما كشف عنها التحليل الفنومنولوجي لظواهر التمييز ضد المختلف وسائر المسلكيات ذات الطابع الاستحواذي على الوعي. والتفسير الذي قدمه هذا النوع من التحليل قبل غيره أن الإنسان من ذاته يضفي معنى وقيمة على الأشياء والأشخاص، معنى يخادع به ذاته إن كان على قناعة بغيره.
أذكر -لتوضيح هذه الفكرة- مثالا مرصودا ضمن ما يستشهد به الفنومنولوجيون، في هذا الصدد، عن طالب جامعي فرنسي يتلفظ بكراهية عنصرية على زميل له يهودي متفوق عليه علميا. فكل وجهة إقناع له تفكِّك سبب عنصريته ضد اليهود، تتحول لديه إلى سبب يضاعف عنصريته: حين يقنعه محاوره بذكاء اليهودي، يقر بذلك، لكن ليتحول إلى دليل لديه على خطورة اليهود، أو على احتقار الذكاء، فالفرنسي لا يحتاجه...!
أما السبب الرابع للتفاؤل والاستبشار فيعود إلى ما تمثِّله المملكة العربية السعودية من مكانة في العالم الإسلامي وفي العالم أجمع، بوصفها موطن الحرمين الشريفين ومنبع الإسلام. فتشريعاتها نموذج للشعوب الإسلامية، وهي الصورة التي يقيس العالم على أساسها معظم فهمه وتخيُّله الإجمالي للإسلام.
وإذا كانت المملكة تستشعر ذلك منذ أن بدأت بمحاربة التعصب والفكر المتشدد وأنشأت مشروع الحوار بين أتباع الأديان، وعانت من أذى المتطرفين والإرهابيين، وما أشاعوه من تشويه لها وللإسلام، فإن محاربتها للطائفية ونأيها بنفسها عن الطائفيين وعن الفتاوى التكفيرية والمتشددة، يُحسب في ميزان قوتها ويُضاعِف من تقديرها، ويخرجها من حيِّز التنابز الطائفي.
وخامس الأسباب، ينبع من ضخامة مثل هذا الإجراء وجذريته؛ وذلك إذا عرفنا ما أضفاه الخطاب المتشدد وما جذّره في الوعي، من مشروعية دينية للهجوم على الفرق والطوائف الأخرى، بدعوى أنهم يهاجمون ويكفِّرون ويهزأون... وهي دعوى إجمالية وتعميمية، فالمتطرفون من كل فرقة هم من يمارس ذلك، ولدى كل الطوائف من العقلاء والمعتدلين ما يكفي للَجْم الشر وإيقاف الحرب المذهبية المستمرة بين المسلمين طوال مئات السنين.
وقد بلغت جذرية التشدد هذه لدينا درجة عنيفة في مجابهة كل من يدعو إلى مكافحة المحرضين على الكراهية، وكيل التُّهم له. وفي ظني أن الإجهاض بالتصويت –في السنوات الخمس الأخيرة- لكل المشاريع المقترحة على مجلس الشورى لحماية الوحدة الوطنية ومكافحة التمييز وبث الكراهية، أوضح الأدلة على ذلك.
وقد تيسَّر لداء الكراهية بمختلف صوره، في العقود الأخيرة -بسبب ما أتاحته وسائل الاتصال في الفضاء الشبكي- ما بلغ به من الانتشار والعنف مبلغاً مؤسفاً، بين الفئات المختلفة على مستوى الوطن الواحد وعلى مستوى العالم.
وسادس الأسباب وختامها، القيادة السياسية السعودية المفعمة بروح الشباب وتجدُّده ورغبته في الانعتاق من أدواء الماضي وأسباب تخلفه. فإذا لم نتفاءل في هذا العهد الشاب بالصدقية في إحداث نقلة في الوعي بالذات الوطنية وبالعالم، وفي تطوير التشريعات التي تعزِّز الحس بالوطن وتحمي وحدته، فمتى نتفاءل؟!