أخذت الصحوة في الحسبان السيطرة على العنصر الأكثر أهمية في تربية النشء «الأمهات»، لأنها كانت مشروعا بعيد المدى تم تنفيذه وفق سياسة النفَس الطويل.
وليس غريبا أن يعترف أحدهم بمعاناته من الفكر الصحوي المسيطر داخل منزله، بل وفي أدق تفاصيل حياته وتربية أطفاله.
علينا أن نعترف في مجتمعاتنا العربية بأننا نعيش أزمات حادة في بيوتنا وصراعات فكرية في الغرفة الواحدة في المنزل، وأن نعترف بأن حياتنا الأسرية مرتبكة لأنها مخترقة منذ قرابة أربعة عقود، وبأننا نواجه مشكلات ما كان لها أن تظهر إلى السطح لولا تكريس الصحوة لأصغر الحوادث الاجتماعية والأسرية، وجعلها قابلة للتحول إلى قضايا معقدة يرتبط حلها مباشرة بفتوى شيخ!.
ظهرت تشوهات الصحوة في الوقت الراهن في عدة لوحات، كان أبرزها في التناقضات التي ظهر عليها مسيروها، والذين تبنوا فكرها ومشروعها، فمن حرّموا التصوير وقذفوا المصورين والمتصورين بأقذع ما يمكن أن يوصف به إنسان، وصولا إلى التكفير والاتهام بعدم الرجولة، نجدهم اليوم يتسابقون إلى الظهور في شاشات القنوات التلفزيونية، ويتفننون في التقاط الصور الدعائية للإعلان، ويتفاخرون بقصورهم المشيدة، في الوقت الذي كانوا يحضّون الناس على الزهد في الدنيا، ضاربين ملايين الأمثلة التاريخية والدينية من التراث الإسلامي!.
أتذكر في فترة التسعينات الميلادية قول أحد رموزهم، إن من يُدخِل التلفزيون إلى بيته هو ديّوث!، واليوم يعد هذا «الأحدهم» أحد أهم نجوم القنوات الفضائية، هكذا بلا خجل أو وجل أو حتى ما يحفظ ما الوجه الذي نادت به العرب في تراثها الأخلاقي.
وليظهر لنا مؤخرا في مقاطع «سناب شات» رمز من رموز الصحوة، مبررا أسباب تحريم التصوير وما يتعلق به، محاولا تبسيط الأمر وإلقاء التهم بطريقة ملتوية -على الذين يفضحون اليوم ما حدث- بقصد تنوير الناس وتحذيرهم من سخافات الصحوة وانتهازية زعاماتها، يظهر ذلك الرمز الصحوي في عودة إلى استحضار الماضويات وتقديمها على أساس أنها كانت خطأ مشتركا هو أحد أسبابها!.
قلت في نفسي وأنا أشاهد المقاطع، «يا راجل عاد فيك حيل للتلون والالتفاف على عباد الله»!
هؤلاء بالطبع لا يشعرون بحجم فداحة ما ارتكبوه من كوارث بحق الناس في المجتمعات العربية، وهم بالطبع يتصنعون الغباء، لأنهم إلى الخبث أقرب.
لكنني أظن أن أهم وأخطر تلك التشوهات ظهرت في بيوتنا باسم الدين والتدين والهُدَى والصلاح، حاملة في ثقافات أمهاتنا وأخواتنا وإخواننا وأبنائنا مبادئ أخلاقية جميلة ورائعة، تعبر عن الطبيعة الفطرية للإنسان، لكن تقديمها كان مقلوبا بنواياه الخبيثة، فقد كانت مصائد لا أخلاقية تحت ستار ديني كبير.
إذ استطاعت الصحوة أن تثبت مبدأ الشك والاسترابة في اللحظة الأولى في ذهنية الأمهات تجاه كل شيء في محيطها ويومياتها، الأمر الذي جعل هذا الكائن البسيط المسكين المخترقة حياته وثقافته، أن يبدأ في تقدم التحريم على الحِلّ في كل شيء بلا استثناء، وهو نتيجة تغييب التفكير في منطقية الأشياء وحدوثها!، ولينعكس ذلك لاحقا كثقافة ومبادئ حياتية على كل من كانت تربيته تحت أيديهن.
في بيوتنا، صنعت الصحوة الشروخ بين الأخوين، وبين الأب وابنه، وبين الأم وابنتها، وبين الصديق وصديقه، وبين الجار وجاره، وبين العامل ورئيسه، وبين أفراد المجتمع الواحد، والأمثلة كثيرة على ذلك، لا أظن أحدا لا يعرفها أو يتعرض لها يوما، وأراهن على ذلك.
فقد أصرت الصحوة التي جعلتنا نستريب في كل شيء من حولنا، على كسب الولاءات لرموزها وفكرها قبل أي نقاش في أي شيء يخص ما جاءت به، وتغييب التفكير وتشويهه بكل الوسائل، من خلال تسويق أحاديث ضعيفة السند، مهترئة المتن، لإثبات صحة ما ذهبت إليه أفكارها وأطروحاتها، وأعترف بأنها نجحت في تغيير الشكل العام لطبيعة المنازل من الداخل رويدا رويدا.
لا تختلف الصحوة في انتهازيتها وبغضها في كل شيء تقريبا، عن المشاريع الفكرية والسياسية البغيضة العرجاء التي فرضت على شعوب كثيرة حول العالم، فقد تغلغلت في النهاية في مفاصل المجتمعات العربية والإسلامية تحت لباس الدين الذي تم تفصيله في الغرف الخلفية للمقاصد الأساسية الخفية التي وقف خلفها من وقف، وهم اليوم يتقافزون من مركبها الذي غرق أكثره في مياه الحياة الإنسانية الفطرية.
في بيوتنا صنعت الصحوة أمهات وأخوات وقريبات أشبه بالراهبات، وإخوة وأصدقاء وأقارب أشبه بالرهبان، بكل معنى الكلمة، لكنها نسيت عمدا أن تصنع شركاء حياة بقدر تلك الرهبنة التي زرعتها فيهم، إضافة إلى التناقض الكامل بين الرغبة في الحياة والتفكير في الموت، الهاجس الأكثر حضورا في حياتنا، لتبدو بيوتنا كئيبة متناقضة تفكّر بالمقلوب، وحين يحضر الغائب أكثر من الحاضر في يومياتك، حينها لا بد أن يكون هناك خلل ما بالتأكيد.