تأسس النظام العربي إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، حين اقترحت بريطانيا على القادة العرب في مصر والسعودية واليمن والأردن والعراق وسورية ولبنان، الدول التي أنجزت استقلالها السياسي، في حينه، تأسيس جمعية أو منظمة للتشاور فيما بينهم، وتعضيد تطلعاتهم في الأمن والاستقرار والازدهار.

وبعد مشاورات عدة بين هذه الدول، تأسست جامعة الدول العربية، وتحددت هياكلها، وكانت في حقيقتها جزءا من ترتيبات ما بعد الحرب.

ورغم مرور أكثر من سبعة عقود، سالت فيها مياه كثيرة وتغيرت فيها حقائق دولية وإقليمية ومحلية، فإن جامعة الدول العربية لم تتمكن من مواكبة هذه التحولات الكبرى، وبقيت أسيرة لتركة قوى عالمية قديمة غربت شمسها، وكانت في حينه تتأهب للرحيل عن مركز القوة، وتسليمه للقوتين الجديدتين: الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفييتي.

فمنذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي، تحولت بريطانيا، الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، إلى حليف تابع لليانكي الأميركي. وكانت نتائج الحرب قد كشفت عن تراجع واضح وكبير للقوة العسكرية الفرنسية. وبالمثل تضعضعت القوة الفرنسية، ولم يكن لفرنسا العظيمة أن تعود حرة من غير التدخل المباشر لقوات الحلفاء، والتي اضطلعت بالكامل بعملية تحرير الأراضي الفرنسية من الاحتلال النازي.

لقد باتت القوة العظمى التي كان لها الدور الأكبر في تأسيس النظام العربي الجديد، غير قادرة على الاستمرار في ممارسة دور الراعي لهذا النظام. وكان على العرب أن يبحثوا عن مواطئ جديدة لأقدامهم، في ظل الدول الكبرى بموازين القوى الدولية التي بلغت أوجها باكتشاف السلاح النووي.

كان علينا في حينه، أن نستثمر مرحلة الانتقال في موازين القوة الدولية، لخلق كتلة عربية فاعلة، لكن ضعف الكيانات الوطنية، وكون عدد كبير لا يستهان به من البلدان العربية لا تزال في حينه تحت هيمنة الاستعمار، حجب عنا هذه الفرصة التاريخية.

في حقبتي الخمسينات والستينات، حدثت انقلابات عسكرية وتحولات سياسية كبيرة في المنطقة العربية. وكان لهذه الأحداث إسقاطاتها على النظام العربي الرسمي.

فهذا النظام الذي ظل يحتفظ بسياقات عمله القديمة، والذي لم يتمكن من التكيف مع المتغيرات الدولية من حوله، شهد تصدعات خطيرة، بفعل انقسام دول الجامعة العربية، في تحالفاتها، تبعا لانشطار العالم.

انقسمت جامعة الدول العربية بين مؤيدين للغرب وآخرين مؤيدين للكتلة الاشتراكية. وكان لذلك تأثيراته المباشرة أيضا، على إستراتيجية التسلح، إذ كانت كل دولة عربية تشتري السلاح من الحليف الأقرب لها.

ويمكن القول، بقليل من التحفظ، إن مجمل الأزمات العربية- العربية في حينه، هي انعكاس للصراعات الدولية، وللحرب الباردة الدائرة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. لكن القضية الفلسطينية، ظلت حتى نكسة الخامس من يونيو عام 1967، عاملا مشتركا بين العرب، بغض النظر عن تصنيفاتهم وتحالفاتهم. وكان الجميع متفقا على أن فلسطين، هي قضية العرب المركزية.

بعد حرب أكتوبر عام 1973، تحول الموقف من الصراع العربي مع الصهاينة، من صراع وجود إلى صراع حدود.

وقّعت مصر، ومنظمة التحرير والأردن اتفاقيات سلام مع «إسرائيل»، فيما بات معروفا باتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية أوسلو، واتفاقية وادي عربة.

إن ذلك يعني أن الخيط الرفيع الذي كان يجمع العرب جميعا تحت خيمة واحدة، بات على الأقل، على الصعيد الرسمي، من الماضي. ومع غياب هذا الخيط، وعدم قدرة الخيمة العربية الوحيدة، جامعة الدول العربية، على التكيف مع المتغيرات الدولية وتجديد أطرها وهياكلها، فإن النظام العربي أصيب بالعجز والشيخوخة.

ولعل ذلك يفسر لنا، كيف أن هذا النظام لم يستطع الصمود أمام إعصار الخريف الغاضب الذي شهدته الأمة قبل سبع سنوات. لقد انخرطنا جميعا في أتونه، وباتت الحرب بيننا وفي داخلنا. تاهت البوصلة وبتنا في الغالب أسرى لأجندات من خارج المكان.

وللأسف، كان ذلك أيضا في مرحلة تغير واضح في موازين القوى الدولية، كانت لنا فيها فرصة سانحة لإعادة ترتيب أوراقنا، ومراكمة مصادر قوتنا، لكننا أمضيناها في قتال بعضنا.

نحن الآن على مفترق طرق. تسويات دولية بين العملاقين: أميركا وروسيا، لا أحد منهما يأخذ مصالحنا في الحسبان، ولا أحد يستشيرنا أو يضع اعتبارا لمواقفنا.

اليوم نقرأ عن اتفاقات هدنة في جنوب سورية، برعاية أميركية وروسية، وهناك ترتيبات لتسويات تنهي الأزمة المشتعلة في سورية، وهناك احتمال توصل القوتين إلى صيغة حل للأوضاع المتردية في العراق، وليبيا.

وليس من شك في أن توقف سيل الدماء هو مطلب إنساني، وهو موضع ترحيب الجميع.

لكن السؤال الذي ينبغي أن تكون لدينا القدرة للإجابة عنه، هو: أين موقع النظام العربي، من كل ما يجري؟، وهل سنظل إلى ما لا نهاية على هامش التاريخ، في عالم يتغير من حولنا كل يوم؟.

لقد انتهت الصراعات العقائدية في العلاقات الدولية، وبات التنافس الاقتصادي والعلمي والسياسي عناوين المرحلة الجديدة.

إن ذلك يتيح لنا تشكيل نظام عربي جديد، على أسس علمية تضعنا على الجادة الصحيحة، كتكتل حقيقي يبحث عن موضع قدم له في عالم لا يحترم سوى لغة القوة، فهل نحن جاهزون لتجاوز عقد الماضي، وتحقيق مصالحات تاريخية، وتشكيل كتلة عربية قوية قادرة على أن تكون ترسا فاعلا في المسيرة الإنسانية الصاعدة إلى الأمام، أم أن علينا أن نكون خارج التاريخ أو في أحسن الأحوال، على حوافه؟!