سمعت حديثا للفتاة السعودية (داليا البوري) تطرّقت فيه إلى تجربتها التي أتاحت لها الاحتكاك بمؤسسات العمل غير الربحي في الولايات المتحدة الأميركية. لفتتني عدة نقاط من حديثها. وإن كنتُ لسببٍ ما قد انجذبت لملاحظة أشارت إليها وهي شيوع الاعتماد على تشكّل علاقة إنسانية وديّة بين الأفراد العاملين في تلك المؤسّسات وبين المستهدفين بخدمتها. فسواء كانت المؤسّسة منشأة لإعادة تأهيل المشرّدين أو المدمنين أو الرعاية الطبية في الأحياء الفقيرة أو غير ذلك، فمن المألوف أن تنحو العلاقة بين الناشط في الخدمة والمستهدف بها إلى أن تكون علاقة إنسانية تتجاوز القيد الوظيفي النمطي. بل من غير النادر هناك أن يؤثّر ذلك على المستهدف فيتحوّل بعد فترة من الزمن إلى ناشط إضافيّ يشترك في مدّ يد العون، ويسهم في تنمية المجتمع من خلال الارتفاع بمهارات الآخرين ومعارفهم.

في نظري أن هذا منعكس عن وعي فلسفيّ بالفارق بين تقديم الخدمة الإنمائية للإنسان ككائن معقّد في احتياجاته وغاياته. وبين اختزاله في احتياجات رعويّة لا تتجاوز التعامل معه كقناة هضمية مشغولة بقوت ليلتها فحسب.

يحتاج الإنسان التقدير والألفة والانتماء على نحو ضروريّ وليس ترفيّا. فبدونها لا يمكن الحديث عن عناصر مستقرة يتشكّل منها مجتمع تنمويّ سليم.

بل بحسب ما أعرف فإنّ هناك مؤسسات غير ربحية في بعض الدول قد تعنى بجانب التأهيل النفسي كهدف محوريّ وليس كدعامة لأهداف تأهيلية أخرى. حيث تخلق تلك المؤسسات أجواء حميمة تحتضن ذوي المشكلات النفسية كالخارجين من بعض الصدمات والكوارث، والعابرين لمراحل حرجة من حياتهم كسجن عائل الأسرة، ونحو ذلك ممّا يعبّر عن الوعي بالإنسان كقيمة روحية عليا لا تقبل الاختزال في مجرّد المطعم والملبس.

هناك نقطة أخرى أثارتني في تلك التجربة وهي تأكيدها على عدم اعتماد أفكار نمطية عامّة للعمل غير الربحيّ، بل من المهم التدرّب باستمرار على خلق الحلول انطلاقا من الوعي بأهداف العمل في كل حالة على حدة، واستثمار التحديات بشكل مرن لصالح تلك الأهداف.

في تصوّري أن لهذه الإشارة أهميتها، ولعلّها تعبّر عندي عن وعي الجيل الجديد بأهمية التخلّص من القولبة والنمطية التي كانت مسؤولة عن إعاقة الكثير من جهودنا التنموية في السابق.

تحدّثت داليا بحماس عن كثير من المشاهد التي وفّرتها لها تجربة الانخراط في برنامج (شغف) الذي أعدّته وقامت عليه (مؤسّسة الملك خالد الخيريّة) بالاشتراك مع مؤسسة (بيل وميليندا غيتس) الأميركية. وهو أحد البرامج التنموية التي تهدف إلى الارتقاء بالعمل في القطاع غير الربحي في المملكة العربية السعودية.

القطاع التنمويّ غير الربحي قطاع حيويّ مهم في بناء الكثير من المجتمعات، ولا يقلّ أهميّة فيها عن القطاع المؤسسي الحكومي أو القطاع الخاصّ الربحي.

 إنّ محاولة نهوض مؤسسة الملك خالد الخيرية بهذا الدور لهو أمر يستحقّ التقدير والاعتزاز.

من الجميل أن نخرج من أفق (الرعوية) الضيّق إلى فضاء الشغف التنمويّ. ومن الجميل كذلك أن تستوعب نظرتنا إلى الإنسان احتياجاته الأرقى وآماله الأسمى. والأجمل من ذلك أن يكون الرهان على عائد هذه النظرة في تماسك المجتمعات التنمويّ وفاعليّتها الحضاريّة.