يقع ليفيناز وغيره من فلاسفة الغيرية الظاهراتيين في مأزق مفاده التالي: كيف يمكن الحديث عن الآخر في ذات الوقت التأكيد على أن الآخر لا يمكن فهمه ولا معرفته. فهم الآخر ومعرفته تعنيان وضعه في سياق ذاتي مفهوم وهذا يعني انتفاء آخريته. بهذا الشكل يصبح الآخر ذاتا، أو جزءا من امتداد معرفة الذات وليس آخرا مفارقا لها. الحل الظاهراتي المعروف هو أن الحديث عن الآخر هو إشارة وليس معرفة. كما يقول مارتن بوبر «كل ما أفعل هو أنني قد رأيت شيئا ثم قضيت عمري أحاول أن أشير إليه». الإشارة فيها إحالة على ما هو في الخارج. ما يشار إليه ليس بالضرورة جزءا من الذات ولا حتى جزء من معرفة الذات، فنحن نشير كثيرا إلى أشياء لا نعرفها ولكن الإشارة هي محاولة للفت الانتباه لما قد يكون غائبا عن تجربة الذات والآخر. لكن، وهذا هو سؤال هذا المقال، ما هي اللغة التي يمكن أن تستخدمها في عملية الإشارة هذه وما أثرها على موقفنا من الآخر؟ نعلم أن الألفاظ التي نختارها تحمل في داخلها حدودها وتصوراتها المسبقة، وبالتالي فنحن أمام احتمال أن تلقي تلك الحدود والتصورات ظلها على الآخر وتحجبه. في هذا المقال سأحاول المقارنة بين شكلين من أشكال التعبير واللغة في محاولة لقراءة طبيعة العلاقة التي تؤسسها مع الآخر: لغة النظر والنور ولغة الاستماع.
لغة النور والنظر مشهورة وذات تاريخ طويل في الفلسفة. أفلاطون على سبيل المثال شبّه الحق بالشمس وعصر التنوير الفلسفي استخدم مصطلح التنوير للتعبير عن دوره وأثره في التاريخ. حين نستخدم هذا الأفق للتعبير عن العلاقة مع الآخر نحصل على عبارات شبيهة بـ «حين أرى الآخر»، «حين يشرق العالم بوجود الآخر». هنا نحتاج تحليلا دقيقا لعملية النظر وللطبيعة التي يؤسسها مع الآخر. نتذكر هنا القلق اللافينازي من أن تتحول العلاقة مع الآخر إلى شكل من أشكال هيمنة الذات وسيطرتها وامتدادها من خلال الآخر. ليفيناز يعترض على لغة النظر والنور باعتبار أن تجربة النظر تجربة ذاتية كاملة. صحيح أن النور خارج عن الإنسان ولكن أفق الرؤية أفق ذاتي بامتياز. نلاحظ هنا مثلا تجربة حال الإنسان في الظلام الدامس حيث يفقد كثيرا من قدرته على الحركة والفعل ويتحول إلى حالة من السلبية والترقب. حين يعود النور للمكان يعود زمام الأمور للفرد. تعود السيطرة والهيمنة على الموجودات. في الضوء يتم رد الوجود ليتسق مع أفق الذات، فحين أرى الآخر فهذا يعني أنه قد تحول إلى صورة في ذهني تنقطع بإغلاق العين. لهذه الأسباب يعتقد ليفيناز أن لغة النور والنظر التي سادت في الفلسفة قبله تعبير عن استحواذ الذات على الآخر، وبتعبيره الدقيق شاهد على هيمنة الانطولوجيا على الميتافزيقيا. تجربة الأرق يمكن أن تساعدنا على تحليل محدودية تجربة النظر. عادة الأرق يترافق مع محاولة النوم في الظلام. تجربة الإنسان مع الأرق خارج أفق النظر والنور. لذا فإن ليفيناز يتساءل عند استخدام لغة النور والنظر: ماذا عن الظلام والعتمة؟ تجربة الأرق تحيل على بعد مهم من أبعاد التجربة الإنسانية وهو بعد الاستسلام والاستقبال. ليست كل تجربة الإنسان سيطرة وهيمنة وإمساك بزمام الأمور. هنا بعد الاستسلام والاستقبال وهذا بحسب ليفيناز هو بعد لقاء الآخر.
في المقابل فإن لغة الاستماع تفتح مجالا أوسع لاستقبال الآخر. الاستماع لا يتحقق بدون فتح الذات للمتحدث. الاستماع هنا ليس الوجود في حدود صوت الآخر بل الاستماع هو فتح الذات للآخر من خلال استقبال كلامه. الاستماع تجربة استسلام واستقبال وتخلٍ عن فلترة ما يدخل للذات. حين نستمع للآخر فإننا بالضرورة ننفتح على الخارج. في الأخير ليس لدينا ضمانات عما سيقوله الآخر. الاستماع كذلك تعبير عن الالتزام تجاه الآخر وتعبير عن استمرار العلاقة معه. الاستماع لهذه الأسباب ليس تجربة سهلة لمن يتحرك في المنطق الذاتي الأناني. الاستماع بطبيعته غيري وفيه مجال للقاء بالآخر بدون أن يكون هذا اللقاء تحت سيطرة وإدارة الذات. الاستماع هنا هو احتفالية بكون الآخر قد توجه للذات بالكلام. الاستماع هنا عمل من أعمال الضيافة، فكما أن الضيف يفتح بابه للزائر الغريب فإن المستمع يفتح ذاته للآخر المتحدث. ولكن ماذا لو لم يتحدث الآخر؟ هل تتلاشى مع صمته فرصة لقائه؟ بالتأكيد أن الاستماع ليس هو المجال الوحيد للقاء الآخر. يتحدث ليفيناز عن مجالات ذات أسبقية تتمثل في الاستمتاع بلقاء الآخر. الاستمتاع هنا تجربة سابقة على التصورات الذهنية. الاستمتاع هنا عودة للجسد وارتباطه بالآخر على مستوى المشاعر والحس.
الفكرة الأساسية هنا هي أن اللغة التي نستخدمها للإشارة للعلاقة التي تجمع الذات بالآخر تحمل معها قيودا وحدودا قد تخفي خلفها جزءا أساسيا من تلك العلاقة. المثال هنا أن لغة النور والنظر السائدة تخفي خلفها جانب الاستسلام وأسبقية الآخر، وهي جوانب أساسية في علاقة الذات مع الآخر. تجربة الاستماع تنفتح على أفق الاستسلام والاستقبال لكنها كذلك تحمل إشكالية احتمال ربط ما نسمع بما نفهم، وهنا نقع في سيطرة الذات على الآخر، ولذا من المهم التفريق بين الاستماع بالمعنى المعرفي والاستماع بالمعنى الأخلاقي في الجزء القادم.