حين نعرف التطرف العصابي بأنه: حالة معقدة من التزمُّت، تقوم على ادعاء امتلاك الحق والحقيقة، وتفضي إلى الاستخفاف بمعتقدات الآخرين، ثم التحريض عليهم، وشرعنة ممارسة العنف ضدهم، وعدّ ذلك من الفضائل الجالبة للأجر (فيما هو – في واقعه – من الأفعال الجالبة للشهرة والامتيازات الدنيوية)، فإننا نحار كيف يؤدي هذا التطرف إلى غياب القيم، أو إلى انقلاب معاييرها انقلابا يحيلها إلى أضدادها، فيجعل النذالة شهامة، والسفالة شجاعة، والدناءة انتصارا للحق، ونحار كيف يمكن لإنسان سوي أن يشتم ميتاً من بني دينه ولغته، أو يشمت عند الموت أو المصيبة بفرد أو جماعة لا ذنب له أو لهم غير أنهم ليسوا أفراداً في عصابة «غزيّة» الجاهلية الحديثة.
من عادات المتطرفين القبيحة التي لم تعد صادمة بسبب التكرار والاعتياد، أنه عند وفاة أي علَمٍ لا ينضوي تحت لواء تنظيم متطرف، أو لا يجامل التيارات المتطرفة ورموزها بالسكوت عن مغالطاتها ومخاتلاتها، أو لا يخدم أهدافها بشكل مباشر أو غير مباشر، أو لا ينتمي إلى أيِّ منها مذهبياً، تظهر أصواتٌ ناشزة، تشمت من المتوفى، وتسمه بأقبح السمات، وتفتي بعدم جواز الترحم عليه، وتدعو عليه بالويل والثبور وسوء المصير، فضلا عن ممارستها شكلا مقززا وغير إنساني من أشكال التشفي عند الموت أو المصائب، وذلك دال على خللين: أحدهما نفسي عائد إلى البحث عن الذات والشهرة والهروب من الفشل عبر طرق غير سوية، والآخر فكري آتٍ من التشبّع بالأدبيات المخاتلة للتنظيمات السياسية المتطرفة، وهي أدبيات تبرمج قارئيها على ممارساتٍ معينة تحقق أهدافاً بعيدة، أم أنه آتٍ من عصابية الانتماء إلى هذه التنظيمات والحركات، سواء أكان هذا الانتماء فعلياً، أم اتّباعياً، مما يجعل ذوي الفطر الإنسانية السالمة من علل الانتماءات المتطرفة، وكلَّ دعاة السلام والتحرر والمواطَنة والمساواة والحرية والكرامة، يعدون هذه الحركات الفكرية والسياسية في قائمة أسوأ الحركات التي عرفها تاريخ البشرية على الإطلاق، إن لم تكن الأسوأ دون منافسين.
قرأنا لهؤلاء المتطرفين العصابيين ما يعف القلم عن تدوينه، عند وفاة الدكتور غازي القصيبي، وعند وفاة الدكتور عبدالرحمن الوابلي، وعند وفاة الفنان طلال مداح، وعند احتراق منزل الدكتور تركي الحمد، وها نحن نشهد البذاءات نفسها تتكرر عند وفاة الفنان عبدالحسين عبدالرضا، فيما لم نقرأ للتيارات الأخرى ما يشبه ذلك أو يقترب منه، عند تعرض الدكتور عائض القرني لمحاولة اغتيال آثمة، بل قرأنا الضد، فكانت لمن يسمونهم بالليبراليين والعلمانيين والحداثيين، تغريدات تدعو له بالسلامة والشفاء، وتتمنى له العودة غانماً إلى أهله ووطنه، مما يسوّغ البحث في الأسباب الفكرية والنفسية التي تنزع من الإنسان إنسانيته وشيمته ومروءته، وتجعله يشمت بالموتى، ويتشفى بهم، ويدعو عليهم، ويصفهم بـ«المقبورين»، ويقلل من إنجازاتهم.
أزعم أننا أمام حالة مرَضية يمكن لعلماء الطب النفسي البحث فيها، وإعادتها إلى أسبابها، وأزعم أيضاً أن هوس المتطرفين بالشهرة الجالبة للمال والمكانة والامتيازات، هو الذي أفضى إلى مثل هذه التشوهات والعاهات، وهو هوسٌ ناجم عن أصول غير مباشرة تمتلئ بها أدبيات جماعات الإسلام السياسي الداعية إلى صناعة نجوم تابعين لهذه الجماعات، لزيادة أعداد المتعلقين بهم، وبالتالي تيسير أسباب الطاعة والتبعية لهم؛ فكلما زاد المنتمي تطرفاً وعنفاً ورفضاً للآخرين، زادت شهرته، وكلما رفع عقيرته بشتم الطوائف والمذاهب الأخرى، زادت حظوظه وحظواته، وكلما كان فاعلا في صناعة الاحتقانات والتشرذم والانقسامات المفضية إلى الثورات التي ستخلص «الأمة» من حكم «الطواغيت»، زادت مخصصاته ومحاضراته ودوراته وأعداد مريديه، إذ من المعلوم بداهةً أن التطرف يؤدي إلى شق الصف، ويكرّسُ إنكار حقوق المواطَنة، ويقف ضد الحقوق الاجتماعية للفئات التي لا تنتمي إلى الجماعات المتطرفة مذهبيا أو فكريا، وبالتالي يحقق هدْم البنية الاجتماعية، مما يسهّل تفكيك الأوطان، وقيام الثورات الممهدة لدولة الخلافة الحلم.
وعليه، فإنه ليس أمام النكرات من الطامحين إلى الامتيازات الحزبية والسلطات العصابية، سوى العمل على تحقيق هذه الأهداف، من خلال الجهر بالتطرف والتشدد، والتأكيد – في كل مناسبة - على رفض الآخر المختلف مع أدبيات التنظيم، والوقوف ضد أسباب الوحدة الوطنية ومعززات الانتماء والهوية، سواء أكانت هذه الأسباب قوانين، أم أفكارا، أم أفعالا، والتسلل إلى أي برامج توعوية أو تثقيفية تهدف إلى بناء وعي يرفض التطرف، بهدف تعديل مساراتها بما يخدم أهداف العصابة السياسية ويحرفها عن أهدافها الأصلية، يُضاف إلى ذلك، استغلال الفرص كلها للتعبير عن هذا التطرف المصلحي الذي يخدم الاستراتيجيات الخفية والمعلنة للتنظيمات المتطرفة، ومن هذه الفرص فرصة موت أحد رافضي التطرف؛ ليكون هؤلاء الأفراد الطامحون ممن «لا تأخذهم في الحق لومة لائم» - كما يقول محرضوهم – دون إيجاد حدود للحق، ودون تحديد مفهومه، فالحق المطلق – عندهم - هو السير على خطى منظّري التطرّف الأوائل وحسب!
هذه الحالة المرَضية لا تقف عند حدود المعتقدات، وإنما تتجاوزها إلى الآراء، فمن يختلف مع المتطرف العصابي في الرأي، فهو فاسق مارق يحلّ دمه وماله وعرضه، أو هو سطحي ساذج لا يفهم (رويبضة)؛ مما يجعل التطرف – من هذه الزاوية - يتداخل مع التعصب الذي يعرّفه علماء الاجتماع بأنه: «الغلو في التعلق بشخص أو فكرة أو مبدأ أو عقيدة أو جماعة أو مذهب، غلواً لا يَدَع للتسامح مجالا، وقد يؤدي إلى العنف»، وليس هناك أدل من هذا التعريف على عصابية أتباع هذه التنظيمات وتعصبهم.
لا حدود لأخطار التطرف العصابي، ولا استشراف يمكنه أن يتوقع ما قد يقدم عليه المتطرفون العصابيون في سبيل تحقيق الذوات، والهروب من أسباب الفشل، والحصول على الامتيازات، ولذا فإن الحزم مع هذه التوجهات واجبٌ عام، وأعني – هنا – الحزم بالرفض والنبذ والحرص على دفع حججهم الواهية، وكشف أجنداتهم الخافية؛ لأن المجتمع أداتهم ورهانهم ومصدر استقوائهم، فإذا استوعب أفراده خطر التطرف وتنظيماته، وعرفوا أساليب قيادييها ومنظريها، فسيخسر التطرفُ الرهان/المجتمع، ويعود الباحثون - من خلاله - عن الشهرة والزعامات والسلطات والأموال والأمجاد والامتيازات إلى دينهم النقي العظيم، وإلى أوطانهم الحقيقية، أو بالأحرى: يعودون إلى رشدهم.