نقرأ عجبًا! فهذا المتفلسف التونسي أبويعرب المرزوقي يصف الإسلام السنّي (وفيلسوفا الإسلام السني في نظره هما ابن تيمية وابن خلدون بلا منازع)، بأنه: «علماني بالمعنى الإيجابي للكلمة أعني بمعناها في كل البلاد الأوروبية غير اليعقوبية تلك التي حققت الإصلاح الديني، فتصالح فيها العقل والنقل، ولم تمر بإرهاب الثورة الفرنسية (مثل ألمانيا وإنجلترا)، ذلك أن علم الكلام في الفرقة السنية الممثلة للأغلبية الساحقة من السنة (الأشعرية) حدد منزلة الحكم، فاعتبره من المصالح العامة وليس من العقائد كما هي الحال عند الشيعة».
وهكذا، يدّعي المرزوقي أن الإسلام السنّي علماني! لماذا يا مرزوقي؟ لأن مسألة الإمامة فيه من الفروع، وأنها تابعة للمصالح العامة، وليست هي من باب العقائد.
وهذا حق لا ريب فيه؛ فلا يعتقد عموم أهل السنة بأن هناك نصًا جليًا ولا خفيًا على معيّن يلي الخلافة. غير أن من حقنا أن نسأل: أين يذهب بالأحاديث التي تنصّ على أن الإمامة في قريش؟ وهو ما يعتقده – تقليديًا – جمهور أهل السنّة، حال كون هذا شرطًا من الشروط متعلقًا بفروع الدين لا بأصوله. على عكس الشيعة الاثني عشرية الذين ينصّون على الأئمة الاثني عشر، وعلى عكس الإسماعيلية الذين ينصّون على سبعة أئمة، وبخلاف الزيدية الذين يرون النصّ على عليّ نصًا خفيًا، وأجازوا مع هذا إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
غير أن هذه المسألة في الإمامة لا تعني أن الإسلام السنّي علمانيّ! وإلا فإن الخوارج لا يشترطون قرشية الخلافة، بل يجيزونها في غيرهم إذا توافرت شروط الإمامة المعلومة. أي أنهم من هذه الناحية أوسع من أهل السنة، وبحسب فهم المرزوقي، يكونون «أشدّ علمانيّة»! لأنهم أبعد عن اشتراط ولاية أسرة أو قبيلة! ولست أدري ما الفارق بين الإسلام السنّي والإسلام المعتزلي مثلًا، وكلاهما يجعلان الإمامة (أي من الذي يتولى الحكم) من فروع الدين بلا مشكلة؟
وهل مناط العلمانية عند أبي يعرب المرزوقي هي عدُّ مسألة الإمامة من فروع الدين؟ وإذًا، فكل من يقول بأن الإمامة من الفروع والمصالح فهو علماني؟! وإذًا فأبوحنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل علمانيون من حيث لا يدرون. وإذا كان الإسلام السنّي (الذي هو الإسلام حقًا عند معتقديه) علمانيًا؛ فمعنى هذا أن النبي جاء برسالة العلمانية إلى العالمين؟
ما الفرق بين هذه الدعاوى وبين القائلين بالإعجاز العلمي في القرآن؟ فإن المناط واحد! يأتي صاحب دعوى الإعجاز العلمي فينظر في النص، فيفهم فهمًا، ثم يرى ما يحتمله هذا النص مما يمكن أن يستأنس به فيصرّح: نحن سبقنا الغرب إلى هذا الاكتشاف العلمي. وكذا يفعل المرزوقي: يقول: إسلامنا سبق الغرب إلى العلمانيّة.
وما أشبه هذه الدعوى بغيرها من دعاوى أصحاب الأيديولوجيات؛ فهذا مادّي يبحث في التراث عن نصوص تؤيد مذهبه، وهذا قومي يتحدث مثلًا عن قومية الدولة الأموية (مع أنها لم تكن قومية البتّة بالمعنى الحديث)، وهذا اشتراكي يستدل بأبي ذر وعلي بن أبي طالب (ولم يكن علي ولا أبو ذر اشتراكيّين، ولا كان خصومهما رأسماليّين)، وعلى هذا الخلط فقِسْ.
وكذا يفعل المرزوقي في قراءته للتراث، وفي فهمه للدين. بل ها هو ذا يقول عن «الإسلام السني» أو «الحنيفية المحدَثة» كما يطيب له أن يسميها، يقول: «فكان هذا الدين [يعني الإسلام] كأنه دين اللادين بالمعنى المتعارف من الأديان المتقدمة عليه زمانًا والمحرفة له بالذات.
وبيّنٌ بنفسه أن مثل هذا الدين بما هو دعوة إلى العودة إلى الفطرة يبدو وكأنه دعوة إلى تخليص الإنسان من المحرّمات، مما يجعل من اليسير أن ينزلق أصحابه في أحايين كثيرة بالرخص أحيانًا وبالطمع في العفو أخرى إلى حياة شبه بهيمية». انتهت مغامرتُه رحمه الله!
فتأمل قوله: وبيّنٌ بنفسه! أي أن هذه النتيجة التي استنتجها، وهي انزلاق أصحاب هذا الدين في حياة شبه بهيمية! هو أمر بدهيّ، واضح شديد الوضوح، وبيّن بنفسه لا يحتاج إلى دليل [ولست أدري من يعني بأصحاب هذا الدين؟ الصحابة مثلًا؟ أم التابعين؟ أم المسلمين المعاصرين؟ أم ناسًا في المرّيخ؟].
أضحت هذه الأسطوانات المشروخة مملّة جدًا، أفيراد للإسلام أن يكون «دكّانًا» نهبًا لكل يد تمتدّ فتأخذ منه بلا منهج، وبانتقاء، وبتأويل معتسف؛ فإذا هو ماركسي لمن شاء، وعلماني لمن شاء، ورأسمالي لمن شاء، وفوضوي لمن شاء؟
إن هذا عبثٌ يجل دين الله عنه.
كتب ابن رشد كتابه الشهير فصل المقال فيما بين الحقيقة والشريعة من الاتصال، ليقرر فيه أن الفلسفة (فلسفة أرسطو) هي صنو الشريعة وأختها الرضيعة! ويقرر المرزوقي أن الحنيفية المحدثة (أي الإسلام) هي الفلسفة الاسمانيّة (مذهب فلسفي لا يتسع المقام لتفصيل أركانه)، وهكذا فالإسلام أرسطي تارة، واسماني تارة، ولست أدري ماذا سيكون في المستقبل!