إنها تسعة وثلاثون عاماً وشاب أسمر أغمق قليلا من لون الحنطة ومذكرات كتبها بنفسه ولم يكملها لأن رصاصة غافلت الجميع وفجرت قلبه.
حسنا لقد كان قلبا مرهقا على كل حال، تشعر بذلك وأنت تفتح سيرة مالكوم إكس، وتقول لنفسك إنه يريدك أن تكون حاضرا جدا في قصة حياته، فلم ينس تلك التفاصيل الدقيقة للحظة اشتعال بيتهم الذي بناه والده بيديه، قفزهم وسط النار وأخوه الأصغر بين يدي ذراع أمه، الرجال البيض الذين أحرقوا البيت، والرجال البيض الذين قدموا لإطفائه، لكنهم وقفوا يحيطون بالبيت يتأملون بكاءهم وسقف البيت يتهاوى.
بعدها بفترة قصيرة مات والده الرجل الذي يبني البيوت لهم أو اغتيل بالأحرى عندما قام البيض برميه تحت القطار، وادعو أنه انتحر، حاولت والدته العمل لأجل 8 أطفال، لكنها انهارت ودخلت مصحا للأمراض النفسية، ووزعت الحكومة الأطفال على البيوت لكن مالكوم قرر أن يعيش حياة التشرد، فهرب من المدرسة، وانغمس في عالم الجريمة ليجد فيها متنفساً لغضبه.
كان يجب أن يكون فتى غاضبا كارها حاقدا وهو يخبرك أن معظم أسرته قتلت، واغتيلت بيد الرجل الأبيض، لذا ظن دائما أنه سيموت على أيديهم، فلِمَ يدخر الغضب عليهم إذًا.
أودع بعدها السجن ليتعرف على الإسلام في داخله، أو لنقل مبدأ هز قلبه بقوة «الناس سواسية»، لكن رجلا اسمه أليجا محمد راسله مالكوم بعد علمه بأنه يرأس أول مجموعة دينية إسلامية في أميركا باسم أمة الإسلام، اكتشف أن مالكوم غنيمة حقيقية، فالفتى يجيد فن الكلمات وفي جمله سحر عجيب يدير الرؤوس، لذا خطط أليجا ألا يفلت منه مالكوم إنه عصاه السحرية التي ستجمع كل السود تحت رايته، وستجعله يستفيد منهم ليكون أليجا رسولهم القادم رسول الكراهية والانتقام من البيض ليدفعوا كل فواتير الألم التي عاشها السود في أميركا.
لكن فات محمد أليجا أن مالكوم لا يقرأ فقط رسائله في السجن، بل يصرف كل وقته وسط الكتب، يبحث عن الإسلام والحكمة والمعرفة، لذا عندما خرج وجعله أليجا المتحدث عن أمة الإسلام تفاجأ أن مالكوم ليس كما توقع، فالفتى بعقل ناقد متسائل باحث، لكنه كان ضحية الحيرة بين فكر أليجا الذي يذكره بما فعله البيض وما تقوله الكتب عن الإسلام، لذا قرر البحث عن الأصول، فرحل إلى الشرق الأوسط، وفي مدنه لم يلامس قلبه شيء، بل أصابته خيبات حتى وصل إلى السعودية في الحج.
في مكة وهو يلتف بإحرامه تفاجأ مالك أن أميرا يضمه ورجلا أشقر يبكي فرحا بإسلامه وعربيا يقاسمه اللقمة وآسيويا يناديه يا أخي، فكر كثيرا وهو ينام تحت سماء منى يتأمل النجوم وحوله المسلمون ملتفون بأبسط الثياب لا تمييز بينهم موحدين لله لا يخشون سواه، قواعدهم بسيطة ترفض الحقد والانتقام، وتدعو إلى الدفع بما هو أحسن، فعرف أن الإسلام ليس بما يقوله محمد أليجا بل بما يعيشه هؤلاء الناس هنا.
في السعودية وجد مالكوم حكمته الغائبة، وأبصر ما أخبرته به الكتب، وعاد إلى أميركا بعقيدة صافية نقية ترفض الكراهية، وتشفق على المخالف، وتحترم قوانين الدولة.
وافتتح مركزه الإسلامي على المذهب السني، وخطب في السود مبينا لهم أنهم لن يتقدموا والكراهية تحوطهم، وأن العلم والمعرفة وحدهما ما سيضمن لهم حقوقهم وليس الثورات والقتل والتحطيم.
هذا التغير الإيجابي الذي حدث لمالكوم نشأ في داخله في السعودية في الستينات، وللأسف رغم تناول الكثيرين لسيرة مالكوم ونقطة التحول الذي جعلته أيقونة عظيمة في تاريخ أميركا كلها لم يشر أحد إلى السبب الحقيقي في ذلك، وهو الوسط الفكري الإسلامي في السعودية في الستينات.
قبل أن يتوافد علينا الحزبيون ويشوهون فكرنا وعقيدتنا ويبررون العنف والإرهاب فهلا استوقفنا ذلك، وجعلنا نعيد رسم تاريخنا من جديد، ونعيد روح المحبة لفكرنا الديني كما كان عليه يوم غيرنا مالكوم إكس، وجعلناه يؤسس لمرحلة جديدة عاشها السود في أميركا رغم اغتياله المروع؟
هل نستطيع أن نفعل ذلك بعد أربعين عاما من خطاب الكراهية والتدمير والإرهاب، لاشك أن ذلك ممكن جدا، بل سهل أيضا، فما بنوه هي قصور من رمال تحتاج إلى موج من تعاليم السيرة وأخلاق الصحابة وسلوك أجدادنا لتهدمه.