من الطبيعي أن تصادف عدداً كبيرا من الناس في هذه الحياة، ومن الطبيعي أن تتعرف عليهم وعلى هوياتهم من مبدأ الشراكة الاجتماعية أو حتى للفضول المعرفي والاطلاع على الثقافات الأخرى غير التي عرفتها.

العالم يعج بهذه الثقافات والهويات، والموقف من الهويات الأخرى موقف يعزز مدى قابليتك لوجود الآخر بوصفه تشكيلا للذات أم أنها هوية مغايرة تماما لهويتك أو هكذا تراها. في واقع الأمر أن الهويات تتقارب والتصورات النمطية عن الآخر تتشابه كونها تصورات ضدية في غالبها وكأن الآخر يشكل خطراً يجب الحذر منه رغم أنه لا دلائل تؤكد على ذلك خاصة في المواقف الحياتية الطبيعية، ولذلك فالمواقف الضدية غير مبررة في غالبها إنما هي بفعل التنشئة والاقتصار على الهوية الذاتية دون الامتداد والتعايش مع هويات الآخرين إلا في حال اضطرت الحياة بعض الناس إلى ترك البقاء في هوياتهم والاختلاط مع الهويات الأخرى من أجل السفر أو العمل أو الابتعاث أو غيرها من أمور الحياة.

كل هذا طبيعي وحاصل في واقع الحال، وعلى رغم كل الكتابات والأفكار التي ناقشت علاقة الآخر بالذات، إلا أنها ماتزال باقية وراسخة في أذهان الكثيرين كعلاقات ضدية في أكثرها وتصورات نمطية عن الآخرين وليس من السهولة زعزعتها لرسوخها.

هذه التصورات عن الآخرين خلقت شعوراً في بعض الهويات أنها أقل رغم أنه لا توجد هوية أعلى وهوية أدنى، وإنما لكل مجتمع هويته الخاصة التي يمكن أن يعبر بذاته عن ذاته في أشكال حياته الثقافية والرمزية واللغوية وغيرها حتى في طريقة لباسه، ويمكن أن تعبر عن ذاتك بغير هويتك ولا ضير في ذلك، فالهوية لا تحكم الإنسان وتعبيره عن ذاته لأنها يمكن أن تسجن الإنسان في قفص الهوية، لكن هذا الاختيار يكون نابعا من ذاتك عن اختيارك المحض دون المؤثرات الأخرى من غير أي انتقاص لهويتك أو لهويات الآخرين، لكن الذي لاحظته من البعض ذاك الموقف من هوياتهم وهو ليس موقفا ناقدا بقدر ما أنه موقف تشعر من خلاله بأنه يرى في هويته شيئا من الدون. لا أعرف لم جاء هذا التصور إلى البعض. ربما كانت تأثيرات الآخر على الذات عاملا من عوامل النظر إلى الذات بشكل دوني أو ربما عملت الثقافات الأخرى تجاه تلك الثقافات أو الهويات بأنها غرائبية وكأن هناك هوية أو هويات فروع، عملت الحداثة مثلا في بعض الدول الغربية قديماً على إلغاء الهويات الأخرى كالموقف من السكان الأصليين في القارتين الأميركتين بطمس الهويات المتعددة في تلك القارة لصالح هوية واحدة هي الهوية الأوروبية الغازية، وكما فعلت الهوية العربية في إلغاء أشكال اللغات الأخرى التي سيطرت عليها كالكردية والأمازيغية وفرضت اللغة العربية كلغة رسمية رغم تعدد الهويات في دول العالم العربي.

من الأشياء التي أحبها في السفر أن أتعرف على هويات الآخرين وعاداتهم ولغاتهم وثقافاتهم، وصادفت عددا من أهل ظفار في صلالة. لكن الذي لاحظته ذلك «الحياء» من إظهار الهوية الظفارية أو إظهار لغتهم الشحرية التي يتحدث بها أهل ظفار إلى جانب اللغة المهرية، ورغم تطميني لهم باعتزازهم بهويتهم إلا أن شعور الحياء من الهوية والتحدث بالشحرية كان واضحا على من صادفتهم، والسبب في هذا الحياء أنها تفسد العربية في ألسنتهم رغم أن الشحرية تمتد إلى أصول عربية قديمة، وهي إحدى اللغات السامية التي كانت أقدم من اللغة العربية القرشية التي وصلتنا وأصبحت لغتنا الرسمية.

شعور الحياء من الهوية رأيته أيضا لدى بعض الشباب الذين يسافرون إلى الغرب ويتواصون بعدم ذكر أنهم من السعودية، ولا أعرف ما سبب هذا الشعور من هوية تمثلنا؟ خاصة أن السعودية من أكثر دول العالم العربي اتصالا بالآخر، هل هي عقدة النقص أم أن هناك أسبابا أخرى؟ ما الذي يعنيه إخفاء الهوية عن الآخرين؟ وما الداعي لذلك؟ أن تخفي هويتك عن الآخر يعني أنك لا تعتز بها ولديك مشكلة معها أو تنظر لها نظرة دونية وتنظر لهوية الآخرين بأنها أفضل، وفي كلا الأمرين يقف هذا الشخص من هويته موقفا رافضا، لكنه لا يقوى على مواجهة مشكلات هويته إن كان فيها حقيقة بعض المشكلات، وفي الأغلب هي مشكلات متوهمة أكثر من كونها حقيقة. نقد الهوية أمر مطلوب، لكن النظر إليها بوصفها هوية دنيا غير مبرر فكل الهويات تقف في مستوى واحد والإشكالية تظهر في مدى انحصار هذه الهوية على ذاتها دون الاتصال مع الهويات الأخرى للتعايش معها وتقف موقف المتصالح أكثر من الموقف الرافض لهويات الآخرين.

الحياء من الهوية هو حياء من تمثلاتها الثقافية والحضارية، وإذا كانت تلك التمثلات فيها ما فيها من خلل فالتعامل النقدي معها أكثر من الحياء منها هو الموقف الثقافي الذي يمكن أن يرفع هذه الهوية ويعزز حضورها الثقافي بنقدها والعمل على تطويرها والتعايش مع هويات الآخرين والوقوف تجاهها وقوف القبول والتعرف والاندماج والاعتزاز، فلكل مجتمع حضارته وثقافته وهوياته التي يعتز بها حتى التي نصفها بأنها بدائية في تصورنا.