بدأت ملامح نتائج الموقف الرباعي العربي بالظهور تباعاً في كلّ ساحات النزاع العربي، ممّا يؤكد أنّ المقاطعة الرباعية لم تكن الغاية منها إضافة أزمة إلى الأزمات العربية، بل إن الغاية من المقاطعة هي إنهاء الأزمات ومحاصرة أسبابها وإمكانياتها. ويستطيع أي متابع التحقق من ذلك عبر تواتر الأحاديث عن ملامح التسويات التي بدأت تلوح في ليبيا والعراق وكذلك في سورية واليمن، مع تجدّد الحديث عن تسوية تعيد وحدة الفلسطينيين الضرورية.
ربما يكون الميل العام هو الحديث عن الخلافات والتدخلات التي سبقت قرار المقاطعة، في حين كانت غاية الدول الأربعة هو السعي إلى طَيّ ملفات الخلاف والنظر إلى مستقبل العمل العربي المشترك وإيجاد الحلول للأزمات القديمة والمستجدة، وفي مقدمتها الإرهاب وأسبابه واستهدافه للدول والمجتمعات. والتعامل مع هذه الظاهرة يستدعي التفكير والتأمل في أدواتنا المانعة والمنسجمة مع قيمنا وأخلاقنا وعقائدنا، لذلك جاءت المقاطعة لتشكّل تدبيرا حازما لجهة التصدّي لمصادر تمويل الإرهاب.
لا شكّ أنّ العقل العربي يقف عند مفترق كبير، إذ إن الأكثرية الفكرية والإعلامية تميل إلى المراجعات والاتهامات مما قد يطيل عمر الأزمات. وفي الغالب المراجعات تقدّم نموذجاً لإدارة الأزمات وليس حلاًّ لها. وهذا ما واجهناه في عملية التفكير في الذكرى السبعين لجامعة الدول العربية، إذ كان ميل أكثرية المفكّرين إلى المراجعات، ولكن الاتجاه الذي اتخذه رئيس مؤسسة الفكر العربي الأمير خالد الفيصل باتجاه التأسيس لثقافة السؤال كان بمثابة عملية إنقاذ للعقل العربي من مأساة الإغراق في المراجعات والاتهامات، والذهاب باتجاه تحدّي صياغة السؤال الجديد الذي لا يتضمّن إجابات والتي أصبحت إحدى مكونات الفكر العربي الجديد.
ليس أمام العقل العربي الكثير من الخيارات، لأننا نعيش نهاية أزمنة وبداية أزمنة أخرى. هناك من وجد نفسه في الفوضى ومؤسساتها وإعلامها واستثماراتها، وآخرون يجدون التحوّل نحو الاستقرار غاية وهدفا. فإمّا أن يكون العقل استشرافياً ويحاول استكشاف ملامح البدايات الجديدة التي انتهجتها القيادات الجديدة من خلال استراتيجياتها المستقبلية، أو أن نستغرق في عملية المراجعات وكيف اخترقت مجتمعاتنا من دول الجوار بسبب الخواء الاستراتيجي وإعلامه وإرهابه وتمويلاته وتنظيماته ومؤسساته الإعلامية المركزية والمتفرعة عربيا وإقليميا ودوليا.
الأيام القادمة ستشهد المزيد من الحديث عن المخارج والحلول للأزمات، لأنّ قرار المقاطعة الحازم وضع الجميع، إقليمياً ودولياً أمام التعامل مع قضايا المنطقة على قاعدة إيجاد الحلول وليس إدارة الأزمات، كما كانت خلال العقود الماضية. وبدا ذلك واضحاً من خلال الموفدين الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والألمان وغيرهم، بالإضافة إلى الوساطة الكويتية. والجميع يتحدثون عن اقتراحات لحل جميع الأزمات من دون استثناء، وفِي مقدمتها إعادة تجديد وتحديث مؤسسات العمل العربي المشترك في جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي والمؤسسات المنبثقة عنهما.
لا شك أنّ التعامل مع النهايات أسهل بكثير من التعامل مع البدايات، لأنّ النهايات تكون كثيرة التفاصيل، وقد أصبحت جزءا من الذاكرة الشخصية للأفراد والمجتمعات، وهناك الكثير من المواقف والمشاهدات والنجاحات والانتكاسات، والإنسان بطبعه حميم مع ذكرياته بشكل عام بصرف النظر عن مرارتها أو حلاوتها، لأنها تصبح جزءا من التاريخ الشخصي والمجتمعي، بينما البدايات هي عملية تجديد واستشراف وتحتاج إلى التأقلم والتفاعل والتركيز وإلى مرحلة انتقالية لكي تصبح من بديهيات الأفراد والمجتمعات. كما أن عملية التأقلم مع البدايات هي جوهر التحوّل المنشود في المجتمعات العربية القادرة على إنتاج استراتيجيات مستقبلية. وعملية التأقلم تحتاج إلى ما يعرف بالصبر الاستراتيجي.