أستعيد قصة، وهي ليست بالأولى ولا الأخيرة، ومثيلاتها بلا عدد، من الموت المصمت والنهاية المريرة، وفي قلبها وعلى حوافها سؤال الوفاء الطويل.
يؤسفني أني لم أعرف الشاعر والأديب الكبير عبدالله باهيثم، ولم أدركه إلا قارئا، وسامعا لحكايات الأصدقاء عنه.
كنت انتقلت إلى جدة في الوقت الذي كان قد رحل فيه قبل ذلك بأربع سنوات، في عام 2002 وهو في السادسة والأربعين من عمره.
ليس مرضه ولا اعتلال روحه، ولا إهمال المكان له، حتى سحب الموت آخر أنفاسه، ليس كل هذا هو المعيب فحسب، بل وأيضا الإعراض الغريب الذي عاناه حيا وميتا.
أسأل: مَن مِن هؤلاء الكتاب والنقاد الذين عايشوه وكانوا أقرب الناس إلى حياته وتجربته، حدثنا عنه بما يجب وما لا يجب؟، وأي مؤسسة أو ناد أو جمعية تراها قد أدرجته في برامجها وفعاليتها ولو بورقة، في ليلة من ليالي مجاملاتها الكثيرة؟، والقنوات التي تمسّينا وتصبحنا بأخبار السفهاء وشبكات التافهين، لن تجد فيها دقيقة ولا نصفها تخصه، لا هو ولا غيره، أما الصحف التي أفنى ثلثي عمره فيها، فهي أول من أدارت ظهرها له!
«وقوفا على الماء»، مجموعة باهيثم الرقيقة الصغيرة، والتي صدرت عن نادي حائل الأدبي بالتعاون مع دار الانتشار العربي عام 2008، بتقديم صديقه الأديب عبدالهادي الشهري، كانت وقوفه الأخير وتجربته الواحدة في اثنتي عشرة سنة فقط من شعره، أو على وجه الدقة، هي سنوات اقتحامه لتجربة أخرى وأخيرة، بكل ما فيها من التوجس والشكوك والارتياب والغناء والعذوبة.
كتب عبدالهادي، «إذا حاولنا أن نحصي مفردات الشك في القصائد بشكل عام، سنجد عدة ألفاظ أخرى، تحمل معنى الشك، لكن في سياقات غير قاطعة: على وجع بين عيني والشارع المستريب أقمت. قصيدة العطش. قلت أكتب إن كان هذا المساء مريبا، وبينهما كالفراغ الذي بيننا ريبة. قصيدة السؤال. واضح من السياق الأول أن الوصف المستريب هو للشارع الذي استدعى انثيالا للعديد من الذكريات التي تكاد تغرقه في طوفانها المالح».
يقول باهيثم: «تبيع إذن؟ - في مزاد الظهيرة إن كان لا بدّ، حين يبكر فوج السماسرة، المرتشون، المرابون، والرفقاء القدامى. تسألهم: كيف باعوا؟ بلى.. كيف، قل مثلا، هذه الطوبة الـ شربت من دمي كي تماسك، والسقف هذا الذي أتصفحه قشة قشة، منذ أتيت إلى كل هذا الفراغ!».
عبدالله أحد الذين جاؤوا ورحلوا بلا جلبة، يقول أصدقاؤه إنه لم يكلف أحدا الكثير، إلا بغرابة موته.