في كل عام تُذبَح ملايين الشياه في يوم العيد كأضاحٍ، وما كان هذا العدد الكبير ليحدث لولا وجود مفاهيم مغلوطة حولها، أدى إلى أن تبلغ هذا العدد الهائل، والذي يقترب من الهدر -إن لم يكن هدرا بالفعل- نظرا لوجود مصارف أهم، ومن هذه المفاهيم:
الأول: اعتقاد أنها سنّة لكل مسلم، وهذا خطأ، فهي مطلوبة من أهل المواشي أي من يربيها ويعمل بها، أما من لم يكن كذلك فليست له، بل قد تكون مكروهة في حقه كما يحصل الآن من شرائها من الأسواق، لقوله تعالى «ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ». فرزقهم قيد للتحديد، وليست زائدة بلا معنى، والشخص قبل الشراء لا يوصف بأنه قد رُزق فالرزق هو الحصول الفعلي وليس إمكانيته، والآية في الهدي المسنون في الحج فكيف بالأضحية، لأن سياقها في أفعال الحج، فالقرآن لا حشو فيه وكلما كانت الكلمة تؤدي معنى جديدا كان ذلك أفضل من أن تكون تكرارا أو زائدة، فالرزق في الآية وآية مثلها بعدها، إن كان خاصا فهو ما أقول، وإن كان عاما كرزق الأمطار والزروع فالرزق العام لا يطلب الله من الناس شكره بفعل خاص، كالتصدق منه أو الأضحية أو أي عبادة أخرى، فلا يشرع التصدق بمياه الأمطار لذاتها ولا الصدقة بالزروع العامة لذاتها، وإنما إذا امتلكها بحيث تتحول إلى رزق خاص، فإنه يطلب منه التقرب إلى الله منها، فهي كالعسل واللبن وصيد البحر والأنعام والفلك والثمار، فكلها قد طالب القرآن بشكرها لكن لا يشكرها كفعل خاص بها إلا من يتعامل بها وليس كل البشر، بحيث يشتري أحدها ثم يشكر نعمته، والأضحية مثلها بل أقل منها، لأن الأضحية أقل من شكران النعم، والشراء إن حصل فهو لمن كان من أهلها. وحديث «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا» موقوف على الصحابي وعلى فرض صحته ورفعه، فإنه يراد به السعة في المواشي لا السعة في المال.
الثاني: اعتقاد أنها عن الميت أو يمكن أن تذبح عن الميت بالاسم -أي لفلان الميت- سواء بوصية أو من غير وصية من الميت، فهي بدعة لم تعرف في الزمن الأول، سواء الوصية بها أو الالتزام بالوصية بها، ولا دليل عليها، فالنبي لم يضحّ عمن مات من أقاربه كحمزة أو زوجته خديجة، ولم تُضحّ زوجاته عنه بعد وفاته، ولم تضحّ عائشة وأسماء عن أبيهما أبي بكر بعد موته، ولا ابن عمر وأخته حفصة عن أبيهما، والأصل في العبادات التي تصل إلى الميت التوقيف، ولا تقاس على قراءة القرآن أو الصيام أو الحج، لأن هذه الأصول المقيس عليها مختلف بها سواء وجودها أو معناها، ولو صحت لا يصح القياس ولا الإلحاق بها ولو كثرت، خاصة أن مؤيدي القياس تركوا القياس فيما هو أكثر معقولية منها، فكيف بها هي لأنها توقيفية محصورة، وتنفيذ الوصية محرم لأنه نشر لبدعة أو مكروه في أحسن أحواله، فحكم تنفيذ الوصية المرتبطة بالأجور كحكم تنفيذ صاحبها لها لو كان حيا، فالمحرم محرم والمكروه مكروه، وما كان خلاف الأولى يتركه والوصي مثله.
الثالث: تعدادها بحسب عدد أهل البيت، فهذه بدعة أيضا، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- ضحى بكبشين أملحين، وكانت زوجاته عنده، ولم تضح أي منهن فكيف يضحي الآن مع الشخص زوجاته وأبناؤه وهم في بيت واحد، بل ويتفاخرون بها وبعددها، وهذا رياء، لأنه يجب إخفاؤها كسائر العبادات، وأحيانا يفتخر ذابحها بمعاناة الذبح من البحث عن جزار يوم العيد ودفع مبلغ كبير له، فهذا رياء من جهة أنه نشر عبادته، ومن جهة أنه نشر معاناته لتحصيل العبادة، كشخص يقول صليت في المسجد وحينما كنت ذاهبا وجدت الطريق مغلقا فتوجهت من طريق أبعد والجو حار حتى أصلي، فهذا مثله، فالحاصل أنه رياء على بدعة.
الرابع: تكرارها في كل عام، فالنبي لم يكررها في كل عام رغم أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة، أي أن النبي مكث 8 سنوات ولم ينقل عنه أنه ضحى فيها جميعها، وأحاديث التكرار ضعيفة سندا، ولو صحت فلا يدل على المواظبة السنوية، كما يفعله الناس الآن، ولم ينقل عن الخلفاء الراشدين التضحية في كل عام، ولو حدث لنُقِل، لأن هذا مما يشاع وينتشر، بل قد نُقل عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان، فقد روى حذيفة الغفاري «رأيتُ أبا بكرٍ وعمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما وما يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ يُسْتَنُّ»، أي تصبح سنة أو عادة، وفي رواية مخافة أن يقتدى بها، وقد قال الألباني عن الرواية الأولى رجالها رجال الصحيح، ونقل أيضا نفس فعلهما عن ابن عباس وأبي مسعود كما جاء عند البيهقي رقم 19037، ونقل عن ابن عمر وبلال مثلهما، ثم تأولها القدماء وقالوا إن ذلك مخافة أن تفرض، لأن الناس غلوا بها علما بأنه لا يوجد أكثر من هذا الغلو الحاصل في زمننا، فلماذا لا يفتى بمثل فعل عمر والصحابة، وهذا على أقل تقدير، وإلا فتركهم دليل صريح على عدم المواظبة أكثر منه على السنية مع المواظبة، وأنه قد تمضي الثلاث والأربع سنوات ولا يضحيان، وهذا ما نقوله. فالتكرار السنوي هو المردود هنا، وأحاديث فضل إراقة الدم لا تدل على التكرار، فمرة واحدة تكفي.