بدأ كثير من المهتمين بالشأن الإعلامي -خلال الأسبوعين الماضيين- بالخروج في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، بآراء تحمل في ثناياها شيئاً من النقد والتحليل لواقع الإعلام الإقليمي، وذلك في محاولة لتسليط الضوء من أجل إعادة العمل الإعلامي إلى مساره الطبيعي الذي يهدف في المقام الأول إلى تبيان الحقائق، بعيدا عن الاصطفاف والترديد الأعمى لما تتناقله المصادر التي لا تعد بالضرورة محايدة.

فكما أن للإعلام دور وطني وأخلاقي في الدفاع عن الوطن والمجتمع، لديه أيضا دور في الإسهام في هذا الجهد الوطني بالطرق المهنية التي تتوخى الحقيقة والموضوعية والكلمة الحسنة.

حالة الفوضى التي مرت ببعض إعلامنا المحلي، لا يمكن تبريرها باعتبارها تأتي في وقت تمر المنطقة برمتها بفوضى مواقف وتجاذبات سياسية. فنحن إنْ انجررنا خلف هذا التبرير واعتبرناه يشفع لنا، فإننا سنخسر كثيرا

مما اكتسبناه خلال السنوات العشر الماضية من تطور في العمل الإعلامي وتزايد وعينا بدور منصاته في الرقابة والتأثير والمشاركة المجتمعية في توجيه العمل الاجتماعي والحكومي نحو الرقي بالوطن والمواطن.

في لقاء مع الفنان الراحل نور الشريف الذي اشتهر في آخر أيامه بلغته الحادة في النقد السياسي والإعلامي، أذكر أنه وصف لي حالة الإعلام في أوقات الأزمات السياسية بقوله: «عندما يحدث خلاف بين دولة وأخرى يتجسد هذا في الإعلام ويصور الدولة الأخرى وكأنها شيطان، ولكن بعض المؤسسات الصحفية عندها بعض الأقلام الموضوعية التي تتميز ببعد النظر، كي لا يخلق حساسية بين الشعوب، وهو أمر يقلقني كفنان ومواطن عربي، لأن الإعلام يخلق حساسية أحيانا بين الشعوب بلا معنى».

وعندما سألته عن رأيه في القنوات الفضايئة الإخبارية، كان تعليقه أنها «ترتكب جناية فى حق المواطن العربي، لأنها لا تهدف إلا إلى الإثارة، فكلها صراخ وسباب، ويتم إلباس الكذب بدعوى حرية الرأي».

أحببت الإشارة إلى رأي الفنان الراحل، لأني أجد فيه توصيفا دقيقا لحالة إعلام ما زال ساريا حتى يومنا هذا، فمن يتذرع بنشر الأكاذيب بشكل ممنهج ضد خصومه من منطلق حرية التعبير، كقناة الجزيرة، فإنه بذلك يفضح نفسه بنفسه، فلا يمكن تصديق هذه الذريعة ممن لا يطبق حرية التعبير بين أهليه، فكيف نصدق من يرى أن حرية الإعلام تعني البحث عن عيوب غيره ليكشفها، في وقت يستر عيوبه بشراء الضمائر والأصوات من شرق الأرض وغربها!

الإعلام هو انعكاس موضوعي لحالة المجتمع الثقافية والفكرية، وكلما ارتقى الإعلام بلغته ومنهجه في تناول الحقائق، كلما إرتقى بالمجتمع ذاته إلى مصاف الدول القادرة على مواجهة المستقبل بتمكن واقتدار وانفتاح، فالصحافة السياسية الصفراء لا تزدهر إلا في المحيط الذي يتبنى الإشاعات وأخبار الجرائم والفضائح، وهو محيط بطبيعته موبوء باللا معنى وموصوف باللا تفكير.

هناك فرق كبير في الإعلام بين من يريد أن يحوّل الخطاب إلى واقع حقيقي يستطيع الصمود أمام الزمن وأمام كشف الحقائق، وبين من يريد أن يحقق أهدافا آنية لن تبقى في سجلات التاريخ إلا باعتبارها ثرثرات تَطَلّبها الظرف الزماني.

الإعلام «سلاح»، فإما أن يكون مصنوعا ليسطّر توثيقا لتاريخ يدوم، أو يكون كلمات وحروفا تزول مع رياح الزمان.