الفضاء المكاني الذي يتحرك فيه الإنسان يكتسب أهميته من جانبين: بقدر ما يمثل -أولا- مسرحا للشخصيات لتتحرك عليه ممارسة نشاطها الإنساني، وثانيا: عندما تكون له قيمة في ذاته.. في تاريخه وأصدائه وألوانه ورائحته، والتي يتميز بها عن جميع الأماكن الأخرى..

القيمة الأولى نفعية بتمامها وكمالها.

والقيمة الثانية تتضمن الكثير من القيم الجمالية والمعرفية والإنسانية..

هاتان القيمتان تبرزان -ولاشك- في مدن كبيرة، والقاهرة وطنجة ودمشق وإسطنبول وروما وأشبيلية وغرناطة وأثينا، ثم لندن وباريس وبرلين (ابتداء من عصر النهضة الأوروبية).

وقد كانت تلك المدن مصدرا لمقاربات ثقافية روائية فلا زلت أذكر-على سبيل المثال- سمرقند في رواية أمين معلوف، التي تأخذ اسم المدينة نفسها عنوانا لأبوابها السردية الباذخة.. ولا زالت ذاكرتي تحتفظ بالتأثيرات الهائلة لأحياء الجمالية والحسين في مصر، التي أبدع رائد الرواية العربية نجيب محفوظ في نقل ملامحها وعوالمها المفعمة بصخب الحياة وتعقيداتها.. كذلك، (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس (الصحراء الغربية) في روايات إبراهيم الكوني.. (طنجة) في أكثر أعمال الروائي المغربي محمد شكري.. (الأديرة) في رواية امبرتو إيكو «اسم الوردة».. ويمكن أن تضاف إلى هذه القائمة المكانية الفاخرة مدينتنا الأثيرة (مكة المكرمة) في روايات الروائية السعودية رجاء عالم..

جميع هذه الأماكن تكمن قيمتها في ذاتها بعدة تأثيرات جمالية معرفية، لا تبرح الذاكرة.. أبدا! أزعم أن تلك الأماكن في تلك الأعمال الأدبية، هي ذاتها في العالم الحقيقي، متى ما تفاعلت باستغراق تام مع الوعي الباطن للشخصيات التي تسكن إليها، بمعنى أن الإنسان ذاته هو الذي يمنح لتلك الأماكن خصوصيتها وهويتها وتأثيراتها التي لا تشبه غيرها، في اللحظة التي لا يقتصر على النظر إليها من زاوية نفعية مادية ضيقة، تغيب عندها كل القيم الجمالية والمعرفي السابق ذكرها..

المدن التي ليس لها ذاكرة.. تاريخ.. التصاق حميمي بالإنسان الذي يعيش فيها.. هي مدن فارغة.. مكان (عابر).. للأكل والتكاثر وكسب المال (ليس إلا)! لا تبقى على الاطلاق في ذاكرة التلقي والحياة..

ولعل أصدق مثال على تلك الأماكن الخالدة، المدن الإيطالية في «واقعها وأدبها»، والتي يتجلى فيها الإنسان، بكل ما يملكه من إمكانات وأدوات وفكر وفنون..

إليكم (فلورنسا) الإيطالية، بصياغة الروائي الأميركي دان براون: «تحتي، على مسافة بعيدة جدا، انتشرت أسطح القرميد الأحمر مثل بحر من وهج فوق الحقول، منيرة الأرض الجميلة التي عاش عليها العمالقة فيما مضى... جيوتو، دوناتيلو، مايكل أنجلو، بوتيتشيلي... في قلب الأفق، بدأت تظهر قبة جبلية من القرميد الأحمر، قمتها مزينة بكرة نحاسية مذهبة تلمع مثل منارة، أيل دومو. لقد صنع برونيليسكي التاريخ المعماري عندما صمم تلك القبة الضخمة، والآن بعد أكثر من خمسمائة عام، ما زال البناء الشامخ في مكانه». وفي سياق آخر: «حدائق بوبولي نتاج مواهب التصميم الفريد الذي تمتع بها كل من تريبولو، وجورجيو فاساري، وبوونتالينتي الذين أنتجوا معا هذه التحفة الهندسية الممتدة على مساحة مدهشة..»، المكان الذي يتجلى سابقا وثيق الصلة تماما بالإنسان الذي يعيش فيه.. بكل ما يزخر به ذلك الإنسان من مشاعر وفن ومعرفة.. مكان يظل في جدل ديالكتيكي مع شخصياته إلى ما لا نهاية.. مكان يجسد تاريخ إنسانه ذاكرة وجغرافيا وحضارة.. كأجمل ما يكون التجسد..

..وبعد، فلست راغبا اللحظة في (تعكير) هذه الأصداء المكانية الفاتنة.. عندما أنقل البوصلة في اتجاه مدننا الحبيبة.. لأنكم ستقولون حتما: «ياااحسرة!» المكان لدينا بيوت (فقط) لتأوينا من مصائب الزمان، وشوارع نمتطيها (فحسب) لكي نذهب من خلالها للعمل صباحا.. وللاستراحة مساء.

ليس ثمة قيم جمالية ومعرفية من أي نوع، أما القيم التاريخية فهي لا تتجاوز حيا صغيرا واحدا في مدينة جدة وأربعة بيوت شعبية في مدينة الطائف.. وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة لم يتبق سوى ما لم تقدر أيدي الجهل على إزالته وتسويته بالأرض (الساكنة) أبدا.. الجبال الشاهقات فحسب!! على الأرض ما يستحق الحياة.. عندما نعيش في (مدن) من ذاكرة وحنين.