وأخيراً، تم العثور على طفل المدينة المخطوف من مستشفى النساء والولادة كما نشر في صحيفة "الوطن" يوم أمس، وأعتقد أن التفاعل الإعلامي مع هذه القضية كان له الأثر الإيجابي على مجرياتها، إلا أن قضية اختطاف الأطفال من المستشفيات تثير الكثير من الأسئلة حول قضايا ومشاكل القطاع الصحي، وخاصةً إذا علمنا أن الحادثة وقعت في مستشفى حكومي يخدم قطاعا كبيرا من السكان.
وأجد من الضروري هنا الوقوف عند هذه القضية حتى لا تتكرر مثل هذه الحوادث في المستقبل، فلا تعني مسألة العثور على الطفل أن يسدل الستار عليها وتمر مرور الكرام دون محاسبة أو مساءلة، فالمشكلة ليست مجرد اختطاف فحسب وإنما مسألة اهتزاز الثقة في الخدمات الصحية المقدمة، وقضية رأي عام في المقام الأول.
فهذه القضية تدخل ضمن إطار تقييم مخاطر الخدمات الصحية المقدمة للسكان من قبل المستشفيات، وللأسف مازالت إدارة المخاطر في كثير من الجهات الحكومية ومنها وزارة الصحة مجرد برامج تدريبية وتصريحات صحفية لا تطبق على أرض الواقع، والأسلوب الإداري يتعامل مع وقوع الحدث نفسه فقط وبشكل وقتي دون الوقاية منه أو التقليل من آثار المشكلة في المستقبل.
لن أتحدث في هذه المقالة عن الإطار الفكري أو النظري لإدارة المخاطر رغم أهميته وخاصةً أن هذا المصطلح ارتبط في الوعي المجتمعي بالسوق المالية والاستثمارات فقط، ولا يعي الكثير من الناس أن إدارة المخاطر تدخل في جميع جوانب الحياة حتى على المستوى الشخصي والمعيشي للإنسان.
لذا سوف أتحدث عن تقييم المخاطر لواقع الخدمات الصحية في المملكة، ولنبدأ بقضية الطفل المفقود، فمن المخاطر المتوقعة لأقسام الأطفال، خطر الضياع والخطف أو اختلاط الأطفال وعدم معرفة ذويهم، وعلى ضوء هذه الحالة فعلى إدارة المستشفى تقدير نسبة وقوع هذا الخطر وتحديد ما إذا كانت هذه النسبة عالية أو متوسطة أو منخفضة، وذلك من خلال تقييم شامل للوضع الأمني لقسم الأطفال، ومن ثم تحديد الإجراءات المناسبة للتقليل من هذه المخاطر، سواء من قبل الإدارة العليا أو التنفيذية وذلك على حسب نوع الخطر ونسبته.
وقد يتبين من خلال التقييم أن هناك دخولا غير مصرّح به لغير المختصين في قسم الأطفال، كما لا يوجد حراسة أمنية كافية، أو أنه لا يتم التحقق من شخصية الداخلين والخارجين، بالإضافة إلى عدم وضوح إجراءات استلام وتسليم الطفل من قبل الممرضة وذويه وتحديد المسؤولية على هذا الإجراء، كما لا توجد كاميرات مراقبة أو أنها معطلة ولا يتم عمل صيانة دورية لها أو تقييم لمدى كفايتها أمنياً.
نلاحظ في المثال السابق أن هذه الاحتمالات تتعلق فقط بالتعامل مع المواطنين أما الاحتمالات المتعلقة بالعاملين في المستشفى فقد يتبين من خلال التقييم عدم وجود تحديد واضح لمسؤوليات هيئة التمريض للقسم، أو قد توجد إجراءات لتحديد هذه المسؤولية ولكن لا يتم تطبيقها بسبب ضعف الإشراف أو المتابعة من قبل المستشفى، كما يحتمل أيضاً وجود خلل في عملية الحضور والانصراف وجداول الأعمال في الهيئة الطبية.
بالطبع هناك احتمالات كثيرة تخص قسم الأطفال، ولكن في هذه المقالة تحدثت فقط عن احتمالات متعددة مبسطة كأمثلة تخص خطرا واحدا فقط، وهو فقدان الأطفال وضياعهم، وتم ذكرها بشكل إجمالي ومختصر للتوضيح فقط، ويتعين على الإدارات المعنية في المستشفيات وضع الإجراءات المناسبة للتقليل من هذا الخطر في الوقت المناسب ويتم تقييمه بشكل دوري حسب المتغيرات والظروف.
ولنأخذ أمثلة أخرى على عملية إدارة مخاطر الخدمات الصحية لقسم الأطفال، ومنها على سبيل المثال خطر انتشار الأمراض المعدية بين الأطفال المولودين حديثاً.
فقد يتبين من خلال التقييم أن هناك نقصا حادا في التمريض تقابله زيادة في عدد الحالات الحرجة، بالإضافة إلى عدم وجود أجهزة طبية كافية، كما يحتمل أن تكون الحضانات قديمة ومتهالكة، مما يؤدي إلى انتشار العدوى والجراثيم بين مرضى القسم.
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن طرحها كحالات عملية على إدارة المخاطر الصحية، عدم وجود أسرّة شاغرة في المستشفيات، وبالتالي عدم تقديم الخدمات الصحية المطلوبة للمواطنين، فعند القيام بعملية التقييم الشامل لتقدير هذا الخطر قد يتبين أن هناك خللا في المسؤوليات والصلاحيات بين مكتب الدخول والهيئة الطبية لجناح التنويم، بالإضافة إلى ضعف نظام الرقابة الداخلية على أقسام التنويم حيث يمكن استغلال هذا الضعف في أعمال غير قانونية، فمن الممكن تسجيل الأسرة بأسماء مرضى خرجوا منذ وقت طويل من المستشفى على أنهم منومون، أو لا يتم التسجيل في الأساس، وهذا في الحقيقة هو سر وجود الواسطات والمحسوبيات في مسألة التنويم.
هذا بالإضافة إلى احتمال عدم قيام إدارة المستشفى بدراسة مؤشرات إشغال الأسرة وعدم تحديد احتياجات الأقسام من عاملين وأدوات طبية وأجهزة وغيرها، فضلاً عن عدم تحديد الاحتياجات الطبية حسب الأمراض وأعداد المراجعين، مما يفاقم من خطر عدم وجود أسرة شاغرة للمواطنين.
وللتقليل من هذا الخطر فإن هناك الكثير من الإجراءات والبدائل الممكن اتخاذها في هذا المجال منها على سبيل المثال تفعيل مبادئ وإجراءات إدارة الأسرّة، واتباع معايير منظمة الصحة العالمية في هذا المجال.
أكتفي بهذا القدر من الحالات العملية والتي تسري أيضاً على كثير من القضايا الطبية مثل مخاطر الأخطاء الطبية ومخاطر نقص الأدوية ومشاكل التموين الطبي، ومخاطر تعثر المشاريع الصحية وتهالك مباني المستشفيات، وضعف الأمن والسلامة، وفي النهاية مخاطر الغش والفساد في القطاع الصحي.
وبعد كل هذا أقول قد حان الوقت لتفعيل إدارة المخاطر في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، ولتكن مرجعيتها الفنية إلى الجمعية السعودية العلمية لجودة الأداء وإدارة المخاطر في المنشآت الصحية التي تم إنشاؤها مؤخراً.