خلال البرنامج التدريبي الذي أقضيه مع بعض الزملاء من التعليم في إحدى الجامعات الأميركية هذا الصيف، سألنا أحد الدكاترة القائمين على التدريب إنجاز مهمة ضمن سلسة مهام أخرى تقوم فكرتها على أن يكتب كل منا فلسفته الخاصة في التعليم وفقا لرؤاه الخاصة وتجاربه التعليمية والشخصية، ثم يربطها بواقع التعليم في بلاده والفلسفة القائم عليها.

برغم ما يبدو هذا الموضوع كعمل كتابي من عدة صفحات كما طلب أستاذنا سهلا وممكنا؛ إلا أنه في واقع الأمر عند الشروع فيه أُسقط في يد الكثير منا ونحن نفكر جديا في المعنى العميق لفلسفتنا التعليمية، وكيف يمكن أن نصفها كما اختبرناها خلال تجاربنا الواقعية في التعليم والتي تمتد تجربة بعض الزملاء المشاركين إلى فترة تفوق الخمسة عشر عاما بين تعليم وقيادة مدرسية وإشراف. وكان المحك الأصعب في كل هذا الأمر هو التساؤل: هل يملك تعليمنا بكل الأحوال فلسفة للتعليم يقوم عليها ويتبناها في خططه وأساليبه واعتماد مقوماته؟

في الواقع أن التعليم لدينا ومنذ بداياته الأولى في قطيعة تامة مع الفلسفة، وفي خصومة خاصة حتى مع المفردة نفسها، لهذا تخلو مناهجنا التعليمية من علم الفلسفة ومعرفة مدارسه ومناهجه، سواء في الحياة بشكل عام أو في التعليم بشكل خاص. بل وتعتبر الفلسفة علما محرما ومحاربا توارثت عداءه الأجيال دون السؤال عن السبب لمنعه وتحريمه، حتى استطاع البعض بالقراءات الحرة أو فرص التعليم في الخارج الانعتاق من هذا التجريم الذي يؤدي إلى الاتهام بالزندقة «من تمنطق فقد تزندق».

الفلسفة بمعناها الشامل والبسيط تعني «محبة الحكمة» أو «علم المنطق» أو «البحث عن الحقيقة»، وفي كل هذه المعاني المختصرة أو في غيرها فالواضح أن الفلسفة تتعامل مع العقل الإنساني الذي يتميز به البشر عن بقية المخلوقات، وتعلي شأنه وتجعل له السبق في الحكم على الأشياء بعد تناولها بالسؤال والبحث والتجريب في كل مجالات الحياة. وتستخدم كذلك للإشارة إلى أساليب خاصة في التعامل مع بعض الأمور تحدد المنهاج المعتمد والقيم والرؤى التي تقوم عليه تلك المادة؛ كما نتحدث هنا عن «فلسفة التعليم»، والفلسفة قديمة بقدم الإنسان على الأرض، ولكنها دخلت في دوامة نفق أسود في العصور الإسلامية الأخيرة، خاصة منذ القرن الحادي عشر، فحرمت غالبية تياراته الفلسفة واعتبرت التفكير المنطقي والتساؤلات المطلقة نوعا من الشعوذة والتنجيم وضرب الرمل ووضعتها بمنزلة واحدة، ووصفتها بأنها من علم الطواغيت الذي يجب تجنبه. وبهذا حرم كثير من العلماء علم الفلسفة وظهرت عدة فتاوى معتمدة بهذا جعلت تلك القطيعة تمتد حتى التعليم السعودي الذي يخلو من الفلسفة في بناء المحتوى أو في المحتوى ذاته كمواد دراسية أو جزء منها.

هذه العداوة مع الفلسفة أدت إلى خلق حالة عامة في التعليم السعودي تقوم على الشمولية، وأدت إلى قتل التساؤلات والانتقاد والشعور بالفردانية حتى صارت مستويات التفكير في الغالب لدى الطلاب في حالاتها الأدنى تقوم على عمليات التلقين والحفظ والتذكر، وتسببت بالتالي تلك الخصومة في خلق فجوة بين العالم الواقعي المعاصر والمتغير بفعل البحث والتساؤل والتفكير والنقد –وكلها طرائق فلسفية- وبين النمط الخامل المتلقي والمتردد في نقد الآخرين وذاته والخروج بتساؤلات عقلانية عن كل مجالات الحياة العلمية والنظرية.

من الصدف التي أتمنى أن تكون جميلة ومتفائلة في حراك تطور التعليم الحالي أن أجد في كتاب إصلاح التعليم لوزير التعليم الحالي الدكتور أحمد العيسى مبحثا عن فلسفة التعليم في السعودية، يتساءل فيه عن ماهية الفلسفة القائم عليها تعليمنا، ويذكر كلاما مهما في هذا الجانب يقول في بعضه: «إنه ليس واضحا ما هي فحوى الفلسفة التي يعتمدها النظام التعليمي في السعودية، فوثيقة سياسة التعليم التي صدرت عام 1389 قديمة جدا، وهي تمثل الوثيقة الرسمية الوحيدة للنظام التعليمي».

ويضيف أن: «التطورات في الفكر السياسي والتنموي والإداري قد تجاوزتها كثيرا، وانعكست على قرارات الدولة تجاه التعليم وممارساته، ولكنها رغم جهل الكثير بمحتواها لا يزال لها حضور في السجال الفكري، وينظر لها كنص ديني مقدس يحرم نقده وتغييره، وذلك أدى مع تطور التعليم إلى فقد نظامه للأسس الفكرية والتربوية التي يستند إليها والتي توضح مساراته واتجاهاته العامة». إن إدراك الوزير من قبل ومن بعد لهذه العثرة الفكرية في النظام التعليمي مدعاة للعمل على تصحيحها وإحداث تغيير تاريخي في التعليم السعودي بوضع فلسفة تعليمية حديثة له، تحرق كل الاعتقادات البالية حول المصطلح أولا وحول مضمون وفكر الفلسفة تاليا، وتكون سببا في إدخال مناهج الفلسفة في تعليمنا وإزالة اللبس الذي غشى هذا العلم سنين طويلة.

حينما تكون للتعليم السعودي فلسفة ونظريات فكرية واضحة للمعلم والمتعلم؛ سيكون لدينا جيل لا يخشى التساؤل، والنقد يعمل على البحث والتجربة حتى يصل إلى المعرفة في حياته العلمية والخاصة، وسيكون قبل هذا لدينا معلمون وقادة لن يقفوا طويلا في حيرة أمام سؤال أصبح عفويا في عالم آخر ينص على: «ما فلسفتك في التعليم؟».