تبرز بين فترة وأخرى إشكاليات ثقافية لها جذورها الفكرية والاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية بعمومها، وتؤثر هذه الإشكاليات على الحراك الفكري والثقافي، وربما صعدت هذه الإشكاليات لتؤثر على الاستقرار السياسي، إذا ما أخذت المسألة بعداً أكبر، عندما تأخذ المشكلة الثقافية أو الاجتماعية شكلاً سياسياً، كما يحصل في بعض الخلافات الثقافية بشكلها السياسي كما يحصل في العراق حالياً، حينما أصبح المكون الثقافي المتعايش إلى درجة التزاوج الأسري بين مكونات ثقافية تصل حد الاختلاف المذهبي والعقائدي، إلى كونه مشكلة سياسية كبرى فرقت حتى الأزواج فيما بينهم، وأصبحت هناك مفاصلة سياسية واجتماعية لم يكن أحد يفكر فيها لمدى التعمق في قبول الاختلافات الثقافية بين أفراد المجتمع قبل الحروب السياسية المذهبية في العراق تحديداً.
في العالم العربي والإسلامي، كما في مناطق العالم أجمع، تتعدد الاختلافات الفكرية والاجتماعية والثقافية والدينية لتشكل فسيفساء بشرية كبرى منذ أول خلق الإنسانية، وحتى يومنا هذا، ودائما ما كانت هذه الاختلافات جزءاً من أجزاء الخريطة الإنسانية في كل بقعة وطئت عليها الرجل البشرية، بل إن تشكل الوعي في الجنس البشري ـ برأيي ـ كان بسبب تشكل سؤال الهوية عن الذات وعن الآخر، وإذا ما كان "الوجود سابقا على الماهية" كما يقول: سارتر، فإن الماهية هي السؤال الجوهري بعد سؤال الوجود في صياغة الوعي بالذات. وظهور الفعل السياسي ـ برأيي أيضا ـ كان بسبب محاولات هيمنة الذات على الآخر، أو محاولات هيمنة الآخر على الذات ليتخلق الصراع السياسي بين مختلف القوى البشرية سواء تلك الصاعدة على المستوى الحضاري أو تلك التي مازالت تدور في إطار المجتمعات التي تتعامل مع الحياة اليومية بشكل بدائي.
ومنذ تكون مفهوم الدولة الحديثة في المرجعية الغربية، أو تكون مفهومها الماضوي في المرجعية العربية والإسلامية بقي سؤال الاختلاف الثقافي مطروحاً بشكل أو بآخر يقترب أحياناً من مفهوم التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة أو يفترق افتراقاً حاداً إلى درجة الاقتتال الفكري، والتصفية السياسية والجسدية، والصراع الدموي، وتقابل الجيوش العسكرية فيما بينها لمصالح سياسية من هنا أو هناك، في حين تبقى تلك الاختلافات في بنيتها الأساسية كامنة مهما كانت حدة التغير في شكلها السطحي، ومهما كانت قوة الهيمنة من القوى الأخرى كما حصل في دولة الاتحاد السوفيتي سابقاً؛ إذ سرعان ما عادت الإثنيات المختلفة في المطالبة باستقلالها الثقافي والسياسي عندما انهارت الدولة وتفككت.
والتكوينات الثقافية سواء كانت على مستوى مذهبي، أو على مستوى عرقي في العالم العربي والإسلامي طيلة تاريخ وأيام العرب، تتجاذبها فكرتان: الصراع على السلطة والتعايش الحياتي؛ فالصراع على السلطة يجعل الاختلافات في حالة احتدام يصل إلى السحق والإنهاء من خارطة الحياة، والتعايش الحياتي يجعل الحالة طبيعية بين الاختلافات ويعود بها إلى وضعها: (الأصل)، ولذلك نجد في بعض القصص العربية أن فارساً ما يقدم على قتل صاحب له من الطرف الآخر، ثم يبكي عليه ويرثيه بقصيدة بمنتهى الحزن؛ لأن الفكرتين كانتا تتنازعان شخصيته الفروسية.
وإذا ما اقتصرنا على المسألة الثقافية السعودية بمفهوم الثقافة الواسع جدا، فإن التكوينات الثقافية كانت ولا تزال في إطار مفهوم التعايش والتجاور حتى قبل تكون الدولة السعودية الحديثة، واقتصر الصراع على اختلاف المصالح المعيشية بين العشائر المختلفة كالاختلاف على المرعى أو السقيا، كما أن تبادل الاحترام كان معروفاً ومشهوراً، وكثيراً ما قرأنا وسمعنا قصائد لشعراء من عشائر مختلفة يمدحون عشائر أخرى، وقصص الصداقة والشهامة بين الأفراد كانت مِلَح المجالس والسمر في بيت كبير العشيرة.
على المستوى المذهبي كانت المذاهب في حالة تجاور وتعايش يمثل التنوع الكبير في الحالة السعودية قبل تكون الدولة الحديثة، كما هو بعدها، ولم تكن مشكلة اجتماعية إلا بعد بروز خطاب ديني متشدد بدأ بفرز المجتمع السعودي إلى تصنيفات عديدة وخطيرة.
وتبرز قيمة المواطنة بوصفها القيمة التفاعلية الإيجابية بين أبناء الوطن الواحد حينما تتحول الاختلافات الثقافية إلى تكوينات متعصبة تحاول التعبير عن ذاتها بشكلٍ تنفي من خلاله حق التكوينات الأخرى في الوجود والتعبير عن ذاتها حتى على مستويات التنمية مثلا، فحينما تتحول معطيات التنمية التي تتوزع بالتساوي على المناطق الأخرى، ثم تجير لصالح منطقة دون غيرها، فإن هذا يضرب في عمق مفهوم المواطنة لدى هؤلاء، كما أن تعبير بعض أبناء المناطق عن ثقافتهم الطويلة والممتدة تاريخياً، دون إلغاء ثقافات الآخرين أو تحقيرها، فإن ذلك لا يمكن أن يكون ضربا في مفهوم المواطنة كونه تعبيراً إيجابياً وطبيعياً عن الذات تعززه قيم المواطنة ذاتها.
السعودية دولة كبيرة جداً، وذات حدود واسعة ضمت في طياتها الكثير من المناطق والعشائر والمذاهب الفقهية والدينية ليتكون لدينا تنوع ثري من الناحية المعرفية والثقافية والاجتماعية من خلال تنوع مطلوب وحقيقي يمكن له أن يحقق أبعاداً ثقافية هي في صالح الوطن ككل قبل صالح المنطقة، أو صالح العشيرة أو المذهب، لكن المشكلة إذا تحول ذلك التنوع إلى حالة تعصب وتمترس ثقافي حول قيم الذات دون قيم الآخر، بمعنى أن يتحول ذلك التنوع الثري إلى تعصب ممقوت، وهنا تبرز قيمة المواطنة لتعيد التوازن بين مختلف الشرائح الاجتماعية دون أن تتحول تلك المواطنة إلى إلغاء بدعوى دافع التعصب وإلا تصبح تعصباً لقيم المواطنة على قيم الاختلاف والتعايش.
إن إشكالية التعصب أنه نوع من إلغاء حق الآخر في الوجود والتعبير عن الذات بشكل يحاول الهيمنة على الآخرين وتحويلهم من معبرين عن ذواتهم إلى كونهم معبرين عن ذوات غيرهم، وفي هذه الحالة تعود كل ذات ثقافية لتخلق قيمها الخاصة وتدافع عنها بقوة، وهنا تبرز المشكلة الحقيقية فيكون التنوع مصدر صراع بعدما كان مصدر ثراء فيما سبق.
إن الاختلافات الثقافية هي اختلافات طبيعية تبرز بوصفها تعبيراً طبيعياً عن الذوات، والمواطنة تعبير عن القيم المشتركة بين تلك التعبيرات، ومحاولة هيمنة ذات على ذات أخرى هي محاولة في إطار التعصب للذات على الآخر، وهنا يكون الصراع الذي سيخسر منه الجميع بما فيهم أطراف الصراع نفسه.