التكفير في أبسط تعريفاته الحكم على إنسان بالكفر، والحكم بالكفر حكم شرعي، أي أنه متأسس على نصوص الشريعة، ولأن الحكم بالكفر تنبني عليه أشياء تؤثر في حياة الإنسان وفي موته، فلا بد أن تكون النصوص التي على أساسها يحكم الحاكم بكفر أحدهم قطعية الثبوت، قطعية الدلالة.
ليس التكفير أمرًا سهلًا، وشأنًا يسيرًا؛ فالحكم بكفر أحدهم ينبني عليه أمران خطيران، أما في الظاهر فمن جهة الأحكام الفقهية، ولا سيّما في المعاملات، كالزواج والفسخ والإرث والولاية وغيرها، وأما في الباطن فهو حكم اعتقادي، من حيث إنه حكم على معيّن بخلوده في النار! وهذا الحكم الأخروي يكون تأليًا على الله تعالى، وقد يعرّض صاحبه إلى عذاب الله لأنه من باب القول على الله تعالى بلا علم كما ورد بهذا النص القطعي في القرآن الكريم {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون}.
لا دين من الأديان السماوية يخلو من التكفير، وهذا أمر طبيعي؛ فالمؤمن بشيء كافر بنقيضه بالضرورة؛ فمن آمن بأن الله تعالى لم يلد ولم يولد، كافرٌ بالضرورة بدعوى أن عيسى ابن الله، ومن آمن بالله تعالى ربًا متفردًا مستحقًا وحده للعبادة، كفر بكل إله سواه سواءٌ ادُّعي أنه شريك له، أو عُبِد من دون الله.
بناء على هذا، فكل أبناء الديانات السماوية «تكفيريون»، أي يكفّرون من خالف أصول أديانهم، وهذا قديم قدم الأديان ذاتها، ولكن نسبتهم إلى أن يكونوا «تكفيريين» هنا ليست صفة لازمة لهم، أي أنك حين تقول «تكفيري»
فلن يخطر ببالك كل مسلم، وكل نصراني، وكل يهودي. فمن هم، إذًا، الفائزون بهذا اللقب؟
حين تقرأ كتب العقائد؛ عقائد طوائف الإسلام المختلفة، تجد أحكامًا بتكفير من قال بكذا وكذا، فمن قال بكذا وكذا
فهو كافر، يستتاب أو يقتل.
تجد هذا التعبير في كل طائفة، وعند أبرز علمائها. وحين تفتش في الأدلة التي انبنت عليها هذه الأحكام تجدها أدلة «محتملة»، أي أنها تقبل أكثر من تفسير تقتضيه اللغة العربية، أو تجد أدلة «عقلية»، لكن الأدلة العقلية لا تكفي للحكم بكفر أحدهم. أضف إلى هذا دعوى «المعلوم من الدين بالضرورة»، وهي في نفسها صحيحة، غير أنه أُدخل في الضروري ما ليس منه! والمعلوم من الدين بالضرورة يقصد به أنه معلوم من دين الإسلام بحيث لا يحتاج إلى استدلال، أي أنه يكاد يكون بدهيًا أنه قد جاء به الدين.
يقسم علماء المسلمين التكفير إلى قسمين:
تكفير مطلقات، وتكفير معيّنين. أما تكفير المطلقات فهو تكفير عامّ يعني أصالة تكفير الأقوال ذاتها، ويضع مفاهيم لما هو كفر، كقولهم مثلًا: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، يستتاب وإلا قتل. وهذا النوع من التكفير لا يُقصَد به تكفير إنسان معيّن.
أما تكفير المعيّنين فهو إنزال تلك المفاهيم على الأشخاص، لكنْ لا بدّ فيها من مراعاة شيئين؛ توافر الشروط، وانتفاء الموانع، فالشروط هي أن يكون عالمًا، ذاكرًا، مختارًا، متعمدًا، وأما الموانع فأن يكون جاهلًا (ويدخل فيه المتأوّل الذي يظنّ أن هذا هو الحق)، ناسيًا، مكرهًا، مخطئًا (أي عن غير قصد ويدخل فيه المتأول كذلك لأنه لا يتعمّد).
هذا التقسيم مفيد في رأيي، وليس فيه مشكلة (إذا كان التكفير هنا مبنيًا على ما نصّت الشريعة على أنه كفر)، لكن المشكلة الكبرى والحقيقية كما أرى مسألتان؛ أولاهما التكفير بلا دليل قطعي من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله، والدليل القطعي هو الذي لا يقبل الاحتمالات، ولا يقبل تعدد التفسيرات من حيث ذاتُه؛ ويستلزم مدلوله مباشرة، وليس هو أوسع من المدلول، بحيث يجوز أن يُفهم على أكثر من وجه، فما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال، وهي قاعدة متفق عليها عند الأصوليين (أي المختصين بعلم أصول الفقه)، ويندرج في هذه المسألة أيضًا تكفير طوائف معينة موجودة في الخارج، ثم يقال: هذا تكفير مطلقات! وهو في الواقع تلبيس ممجوج، فالأشاعرة مثلًا، أو الجهمية، أو المعتزلة، كل هؤلاء طوائف «معيّنة» موجودة في الخارج، وليس هو من باب تكفير المطلقات كما يدّعي بعض «المتوسعين» في التكفير.
وثانيهما: إنزال الأحكام على معيّنين من دون مراعاة الشروط والموانع، وكذا التوسع فيها لغير القضاة الشرعيين المخوّلين الحكمَ في هذه الأمور، بحيث أضحى كل من «هبّ ودبّ» يحكم بالكفر على من شاء.
وفي جميع الأحوال، في الإمكان النظر إلى «التكفير» بوصفه مسألة «رأي»، ما دام لا يؤدي إلى إضرار وإيذاء، لكن مثل هذا يحتاج إلى «ثقافة مجتمعية» وإلى «قانون» يرفع المطرقة على رأس من يضر بالآخرين ويؤذيهم.
لكن واقع التكفير في مجتمعاتنا في هذه الأوضاع التي نعيشها ليس مسألة رأي وحسب! ففيم قُتل فرج فودة؟ وفيم قتل ذاك الشيعي المصريّ «حسن شحاته» وسُحِل في الشوارع بعد مقتله على يد العامّة الذين شُحنوا بالتحريض شحنًا؟ وهل من ضامنٍ ألا يقوم «مهووس» بقتل من حكم «الشيخ فلان» أو «الداعية علّان» بكفره؟