بعد عامين من انتصار الثورة الإيرانية ووصول الملالي إلى الحكم في طهران، أي في عام 1981 عقدت إيران مؤتمرا يدعو إلى تدويل الحرمين الشريفين، ولم يحظ بالحضور المكثف أو الصدى الإعلامي الدولي المأمول له، فاتجهت في العام التالي، 1982، إلى عقد مؤتمر دولي في سيراليون بتمويل كامل من النظام الإيراني، وفشل هذا المؤتمر أيضا، حيث لم يحضره إلا ممثل عن شيعة نيجيريا وبعض أعضاء حزب الدعوة الإسلامية في العراق إلى جانب شخصيات الدولة المنظمة، إيران.
طالبت إيران بتدويل الحرمين الشريفين والتحكم في عائدات الحج وفصل الحرمين عن السيادة السعودية ووضعهما تحت وصاية إسلامية. وإلى جانب إيران كان الرئيس الليبي السابق معمر القذافي يتناغم إلى حد كبير مع التوجهات الإيرانية حيال دعوتها لتدويل الحرمين الشريفين.
والآن دخلت قطر على الخط في هذا الجانب وأصبحت الحكومة القطرية تردد ذات الشعارات التي ما انفك النظام الإيراني يستخدمها عند الحديث عن الحج والحجاج الإيرانيين. فقد تحدثت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية عن ضرورة «تأمين سلامة الحجاج القطريين»، وأن تقدم السعودية التزامات بذلك. هذه المطالب من الحكومة القطرية هي ذاتها التي كنا نسمعها من الجانب الإيراني طيلة السنوات الماضية، وبخاصة بعد قطع العلاقات بين الرياض وطهران في مطلع عام 2016. وإن كان النظام الإيراني اقتصر على الجانب الإعلامي والمحلي، فالنظام القطري تجاوز نظيره الإيراني في التصعيد وقام برفع مذكرة إلى الأمم المتحدة مطالبا بتدويل القضية. وبعد ردة الفعل السعودية الرسمية والشعبية الحازمة على مطالبة قطر بتدويل الحرمين، خرجت وزارة الخارجية القطرية بنفي المطالبة بتدويل الحرمين، وزعمت أن العريضة تطالب بتدويل قضية ما أسموه بـ«تسييس الحج».
الواقع أن هذا التصريح ينطبق عليه بيت الشعر المعروف «وفسر الماء بعد الجهد بالماء»، فالكل يدرك جيدا أن هذه حيلة قطرية واضحة فليس هناك فرق كبير، وتدويل مزاعم المطالبة بعدم تسييس الحج يقود في نهاية المطاف إلى المطالبة بتدويل الحرمين، وبخاصة إذا أخذنا في الحسبان أن مزاعم تسييس السعودية للحج تهمة لم تثبت، بل إن السعودية في الحالتين القطرية والإيرانية تؤكد في نص قرار قطع العلاقات على السماح لحجاج ومعتمري هذين البلدين بأداء مناسك الحج والعمرة وتسهيل ذلك، فأين تهمة التسييس هذه؟ وما يؤكد اتجاه النظام القطري نحو المطالبة بتدويل الحرمين، ذلك التقرير الذي بثته قناة الجزيرة القطرية مؤخرا، حيث هاجمت فيه السعودية وروجت لمشروع طهران المطالب بتدويل الحرمين. فعلى سبيل المثال تقول الجزيرة في تقريرها المرئي ما نصه: «الحج في السعودية وتتولى وحدها تنظيمه، بل تتصرف في كل شؤون الحرمين حتى بلا عودة ولو من باب الاستئناس لملياري مسلم موزعين في أكثر من خمسين دولة، وقد كان لهذا الترتيب إجراءات محسوسة على الأرض، فإن تذهب إلى العمرة أو الحج يعني أن تتوجه إلى السفارة السعودية وتُمنح تأشيرة لدخول مكة، ويكون ذلك عبر المطارات السعودية بإشراف سُلطاتها فقط ووفق قوانينها الوضعية»، فماذا يعني هذا كله غير العزف على التدويل، وهل تتحدث الجزيرة خارج سياق توجهات القيادة القطرية؟ أما موضوع عدم استئناس السعودية برأي العلماء من الدول الإسلامية الأخرى فهذا غير صحيح أيضا، فالسعودية تراعي مشاعر المسلمين وتأخذ بالآراء العقلانية التي تخدم الدين الإسلامي والمصلحة العليا في رعايتها للحرمين وتهيئة سبل الراحة للمسلمين، فقد استنارت عبر التاريخ، ولم تكن مجبرة على ذلك، بآراء علماء أجلاء من الدول الإسلامية، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان هناك مقترح بنقل مقام إبراهيم من مكانه وإبعاده قليلا عن الكعبة لكي لا يعرقل حركة الطواف، وأقر ذلك كثير من العلماء في السعودية، ثم علم الشيخ الشعراوي بالمقترح واعترض عليه ووضح في رسالة للملك سعود عدم جواز ذلك، فأخذ ملك السعودية حينها برأي الشعراوي وتقرر عدم نقل المقام من مكانه. ومن الأمثلة القريبة جدا، قطع نحو 200 عالم من كل أنحاء العالم الإسلامي دابر الجدل حول مشروعية توسعة «المسعى» بين جبلي الصفا والمروة، داخل الحرم المكي الشريف، وأكدوا على أن هذا العمل «تيسير على المسلمين وعمل جليل يؤجر فاعله». هذا غيض من فيض. فإن لم يكن هذا من باب الاستئناس برأي علماء المسلمين في بعض الحالات فماذا يكون؟
وكما كان الجانب الإيراني يطلق الكثير من المزاعم ضد المملكة فيما يتعلق بموضوع الحج والعمرة، سارت قطر على هذا النهج أيضا. فقد زعم النظام القطري تعرض بعض المعتمرين للإهانة ولم يثبت ذلك، ثم زعمت منع السعودية القطريين من الحج، واتضح أن الجانب القطري، ممثلا في وزارة الأوقاف، قد أغلق التسجيل الآلي للراغبين في أداء الحج. ومن التهم القطرية المضللة ما نشرته أيضا قناة الجزيرة القطرية في جزء من التقرير المشار إليه آنفا، وكذلك انتشر تسجيل لإعلامي رياضي قطري معروف يؤكد على ذلك أيضا، وتم تداول هذه المزاعم في عدد من وسائل الإعلام القطرية. تقول تلك المزاعم إن الحاج القطري لا يستطيع استخدام البطاقة البنكية لسحب النقود من أجهزة الصرف الآلي في المملكة. هذه الفرية الكبيرة كشف زيفها الإعلامي السعودي عبدالعزيز البكر، الذي عمل لفترة من الزمن لصالح إحدى القنوات التلفزيونية القطرية قبل أعوام، ولا يزال يملك حسابا بنكيا فعّالا في قطر. لقد وثق البكر بالصوت والصورة عملية سحب من جهاز صراف آلي سعودي مستخدما بطاقة حسابه القطري واستخرج المبلغ الذي طلبه.
الخلاصة، من المهم أن تدرك الجزيرة ومن وراءها النظام القطري، ومن وراءهما النظام الإيراني، ومن دار في فلكهم، أن الحرمين الشريفين يقعان داخل حدود المملكة العربية السعودية وجزء لا يتجزأ من أراضيها، وتمارس على تلك المناطق حقها السيادي الكامل في حماية أراضيها والذب عنها والتصدي بقوة وحزم لكل من يحاول العبث بذلك بأي طريقة كانت، كما أن الجميع يدرك أن هدف هذه المزاعم الكاذبة يأتي في إطار إثارة العالم الإسلامي ضد المملكة، وقد تناسى هؤلاء أن مثل هذه الفبركات الإعلامية بتزوير الحقائق لا تنطلي على العقلاء. ولنكن أكثر صراحة ووضوحا ونقول إن التعدي على سيادة المملكة على أراضيها خط أحمر للشعب والحكومة السعوديين على حد سواء، وهو بمثابة إعلان الحرب على المملكة كما ذكر وزير الخارجية السعودي، وكما فشلت إيران سابقا ستفشل قطر حاليا، ولكن كما لم ينس الشعب السعودي العبث الإيراني بأمن الحرمين الشريفين وأمن ضيوف الرحمن، فإنه من المتوقع أيضا عدم نسيان مطالبة النظام القطري هذه، حتى وإن تم حل الأزمة الحالية، لأن الحديث عن تدويل الحرمين الشريفين تجاوز كل الخطوط ولم يعد الأمر محصورا في خلاف سياسي إطلاقا.