في الأفق ما يثير للتحليق في اتجاهات أخرى..

في الأرض متسع للغناء إلى أبعد وجع..

أقول ذلك بعد أن شعرت بأنا استهلكنا الكثير من الكتابات والمقاربات والبيانات لجعل كل الكلمات الممكنة تؤدي وظيفة (رد الفعل)، في الوقت ذاته الذي تناسينا -خاصة في العقد الأخير- كتابة (الفعل) ذاته!، وكأنا تماهينا بهذا الفكر مع عمل بعض المؤسسات الحكومية التي تتمحور ممارساتها على مواجهة الأزمات الآنية الطارئة، بدلا من أن تكسب الوقت الثمين والمتاح لصياغة منهجيات عمل دقيقة ورصينة وقادرة على منع حدوث الأزمات قبل وقوعها!

 حقا فإنا استهلكنا زمنا طويلا في مباراة لا تنتهي أشواطها بين فريقي الخطاب الديني والخطاب الثقافي في تجلياته التحديثية. منذ ما يقارب أربعة العقود ومعظم ما تنتجه وسائل إعلامنا هو الصراع الدامي بين الثنائيات إياها: الأصالة والمعاصرة؟ القديم والجديد.. القراءة المعاصرة للنص التراثي والقراءات السلفية التقليدية الثابتة؟ كما أن الطرح السياسي استهلك مفرداته في رد الفعل (ذاته)، وكأن المواجهات السياسية التي تخوضها بلادنا بدعا من المشهد الكوني السياسي العام! أليست بلادنا تتوافر على الكثير من المكتسبات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وأليس من الممكن دائما أن يوجد من يتأذى غما وهما وحسدا من تلك المكتسبات؟!

 ومما يذكر ليروى هنا أن أدب ما بعد الحداثة العالمية في أوروبا وأمريكا يحكي دائما عن أن التاريخ السياسي يعيد نفسه دائما.. يكرر نفسه في كل مرة.. البنية ثابتة واللاعبون يختلفون ويتنوعون.. رواية المجزرة الشهيرة للكاتب الأمريكي فونيجوت: يتحول التاريخ في الرواية إلى تجربة شخصية وإلى سرد، حيث يزول الفارق بين المؤلف والسارد.. يتحدث المؤلف لأحد المنتجين السينمائين عن رغبته في كتابة رواية ضد الحرب، وعندئذ يرد عليه المنتج قائلا: وما فائدة هذه الرواية وجدواها، فالحرب لن تتوقف أبدا مادام فاوست (الأسطورة العالمية للشر والحرب) موجودا.. بوجود الحياة!.. لا جديد تحت الشمس.. (قانون العودة الدائمة لنيتشة)،العودة إلى الصراع الأزلي بين قابيل وهابيل.. بين (فاوست) الموت و(أبولو) الحياة!

 لذلك فإن فعلنا في الخطاب السياسي يجب أن يكون كآلة تعمل دائما، في أوقات النزاع والسلام معا، لإنتاج ما يشبه النظرية السياسية التي تتسق معطياتها مع أهدافها وغاياتها وطرائق عملها، بحيث تكسب مزيدا من الاقناع والتفاعل مع الآخر بمهنية عالية.. الآخر القريب أو البعيد على السواء (وهو بفضل من الله كذلك، حتى في مرحلته الآنية)، ولكن الحديث يظل متعلقا أبدا بالكلي والعام.

كما أن الوقت قد حان حقا، بعد أن عرف المجتمع زيف الخطاب الصحوي الديني الذي كان قد شدد قبضته المتسلطة على الذهنية الجمعية زمنا مديدا، تعطلت فيه العقول، وتناسخت بفعله الأفكار، وغابت كل الممارسات الإنسانية التي تهجس بالإبداع والتألق والحياة! كما عرف المجتمع زيف رواده الذين يعيشون بيننا جسدا، في الوقت الذي تطوف عقولهم في فضاءات معادية لنا، وتحلق أرواحهم في أماكن وادعة هنيئة بعيدة، تستقر في نعيمها قناعاتهم الحقيقية فكرا ومادة!!

 أقول إن الوقت قد حان بعد كل ذلك إلى أن يمارس خطابنا الثقافي والإعلامي حقيقة التحديث ومواكبة الحضارة الكونية، باعتبار أننا تجاوزنا بحتمية العلاقة المؤكدة بين حركة الزمن وبين الحداثة والتغيير مرحلة التبشير بتلك الحداثة، والمحاولات المستميتة للدفاع عنها أمام خصومها الذين سبقوا المجتمع الآن للاعتراف بتلك العلاقة استجابة لنداءات الكون وحاجات الانسان لتحقيق ما كلفه به الله عز وجل من خلافة على الأرض، التي لم تعد هي ذاتها في العهد القديم! بمعنى أن مساحات الرأي الورقية والإلكترونية يجب أن (تباشر) من داخل مفازات التحديث والتنوير والحضارة: قضاياها الفاعلة الحقيقية من مثل: الاتجاهات الحديثة في الآداب والفنون ونقدها، شروط المنهج العلمي في إنتاج منظومة الأفكار التي تنهض على أسسها مؤسسات المجتمع المدني الحديث، التجارب الرائدة في مجتمعات الحضارة، حفريات المعرفة، مقالات الفلاسفة، سبل مقاربة المسكوت عنه في النصوص باعتباره أكثر قيمة معنوية ودلالية من المعلن عنه، الوعي بالتاريخية عن طريق مقارنة المناهج المستعملة في العلوم الإنسانية -وضمنها التاريخ- ونقدها نقدا دقيقا وافيا، قراءة التراث بجعله معاصرا لنفسه من خلال إعادة التاريخية إليه عن طريق الكشف الدائم عن الوظيفة الايديولوجية -الاجتماعية والسياسية- التي دل عليها النص التراثي أو رغب في أن يدل عليها، داخل الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه... إن اتجه ما نكتبه في وسائل إعلامنا إلى تلك القضايا ومثيلاتها، فإن ذلك يعني أننا بدأنا الخطوة الثقافية الإعلامية الأولى نحو المجد الحضاري، بعد أن استهلكنا زمنا مديدا ونحن في الصف الأول نعلن عن أهمية التحديث والتطور، والنظرة العلمية للأشياء، ومواكبة علوم وثقافات العصر. نعلن ونعلن -فقط- عن كرنفال الحياة الجديدة، من غير أن نبدأ بأولى فقرات هذا الكرنفال الحضاري العالمي المدهش!...آن الأوان إذاً، فلننطلق، خاصة وأن المكون السياسي المحلي (المهم) لنجاح الكرنفال المهيب قد بدأت فعالياته التحديثية بجد وإصرار في اللحظة الوطنية التي نعيش تجلياتها وتحولاتها الآن بكل سعادة وشغف.