مرة تلو الأخرى، تؤكد المملكة العربية السعودية المصداقية الكبيرة التي تتمتع بها، وتثبت أن مكانتها الفريدة وسط الدول العربية والإسلامية، كحاضنة للحرمين الشريفين، ومهبط الوحي ومنطلق الرسالة الإسلامية، وأن نهج الوسطية الذي تتبعه، وتناغم سياساتها مع ما أقرته مؤسسات المجتمع الدولي، والتزامها بالسياسة المعتدلة، وتواصلها الإيجابي مع كافة دول العالم، هو ما أكسبها ذلك الموقع المتميز، وجعلها محل ثقة الجميع وموضع احترامه. بل إن مواقف المملكة الصائبة دائما ما تجد التجاوب من الدول الأخرى، التي تتعامل مع تلك المواقف باهتمام كبير.
بالأمس القريب حققت الدبلوماسية السعودية نصرا كبيرا، فعندما تزايدت اعتداءات حكومة إسرائيل اليمينية التي يقودها بنيامين نتانياهو، على الفلسطينيين، ومنعتهم من أداء الصلوات في المسجد الأقصى المبارك، ووصل صلفها حد إغلاقه، ومنع إقامة الشعائر الدينية فيه، وإسكات صوت الأذان، لم تستطع الرياض ممارسة فضيلة الصبر، لأنه لا يكون محمودا في مثل هذه المواقف، ولم ترتض الوقوف موقف المتفرج، وكان لا بد من التحرك، لنصرة الأقصى ودعم المرابطين فيه، وتوفير الحماية للمصلين والمصليات، وهو ما قام به خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي أجرى مجموعة من الاتصالات الهاتفية بقادة دول العالم، محذرا من تبعات هذه السياسة الطائشة، ومشددا على وجوب وقف استفزاز المصلين، وإعادة فتح أبواب المسجد أمام مرتاديه، وأسفرت تلك الاتصالات عن تشكيل ضغط دولي هائل على تل أبيب، أدى في ظرف أيام قلائل إلى تراجعها عن كافة السياسات التصعيدية، وإعادة فتح أبواب الأقصى المبارك أمام المصلين، بعد إزالة الأبواب الإلكترونية التي كانت قد قامت بنصبها.
رغم مزاعم الاحتلال، وتصعيد لهجته العدائية، وتشديد قبضته الأمنية على المسجد، وانتشار الآلاف من جنوده في كافة الساحات، وتمسكه بالبوابات الإلكترونية ورفض إزالتها، إلا أن كل ذلك تهاوى في أيام معدودة أمام قوة الرد العربي السعودي، ولم تجد تل أبيب سوى الإذعان لعاصفة الغضب التي هبَّت عليها من كافة الدول الكبرى، تجاوبا مع موقف الرياض، وقبلت بإزالة كل إجراءاتها الاستفزازية، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، وفتح أبواب المسجد أمام المصلين. وهذه الخطوة تكتسب أهميتها، ليس فقط من وقف الاعتداءات الأخيرة، بل إن إسرائيل سوف تعيد النظر ألف مرة قبل أن تفكر في تكرارها، بعد أن تبين لها أن للأقصى ربّا يحميه، وعبادا يدافعون عنه.
لم يكن هذا أول انتصار تحققه السياسة السعودية لدعم الفلسطينيين وإيجاد حل لقضيتهم، فقد سبقتها المبادرة العربية للسلام التي قدمتها المملكة في القمة العربية الشهيرة التي عقدت في بيروت عام 2002، وهي المبادرة التي أحدثت صدى واسعا عم العالم بأسره، ووجدت تجاوبا منقطع النظير من معظم الدول، لدرجة أن كثيرا من السياسيين داخل دولة الاحتلال دعوا إلى تبنيها والموافقة عليها، إلا أن أحزاب اليمين المتشدد وقفت ضدها، أملا في نيل تنازلات إضافية، ومع ذلك تسببت تلك المبادرة في إحراج ساسة تل أبيب، لاسيما بعد أن تبناها كثير من الدول الكبرى ودعت إلى تطبيقها.
وقد عرفت المملكة منذ قيامها على يد الملك المؤسس المغفور له عبدالعزيز بن سعود باهتمامها الكبير بقضية فلسطين، وبحرصها على صيانة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وبقائه مفتوحا أمام المصلين، ينطلق منه صوت الأذان صادحا بالحق، بل إن الرياض وضعت هذه القضية خطا أحمر، وداومت على دعم قضية فلسطين في كافة المنابر السياسية الدولية، وقدمت المساعدات المادية للشعب العربي المحاصر، وسعت مرارا إلى رأب الصدع بين الفرقاء الفلسطينيين، وحثتهم على تنحية خلافاتهم السياسية جانبا، وتحقيق المصالحة الوطنية، كمدخل لاستعادة الحقوق، وحافظت على موقفها الوسطي بالوقوف على مسافة واحدة من الفرقاء.
في ذلك السياق يحضر إلى الأذهان احتضان مكة المكرمة لاجتماع قيادات حركتي فتح وحماس، برعاية سعودية، لأجل وقف الاقتتال، والتوصل إلى حلول وسطى، وتوج ذلك الاجتماع بتوقيع اتفاق مكة في الثامن من فبراير عام 2007، وهو الاتفاق الذي كان كفيلا بالتوصل إلى حلول نهائية تنهي الخلاف والاحتراب، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، إلا أن أصحاب المواقف الحزبية الخاصة سعوا بكل ما في وسعهم إلى عرقلة تنفيذ الاتفاق، تنفيذا لأجندة أبعد ما تكون عن مصلحة الفلسطينيين واسترداد حقوقهم، ويعلم الجميع أن هناك بعض الدول الصغيرة التي ساءها أن يتحقق ذلك الاتفاق، وخافوا أن يُنسب للدبلوماسية السعودية، لذلك سارعوا إلى إجهاضه، عبر استخدام عملائهم، رغم أن المملكة لم تسع في يوم من الأيام إلى اتباع ذلك الأسلوب، والتفاخر بمنجزاتها، وإلا لعجزت الصحف عن تسجيلها.
الآن تواجه قضية المسلمين والعرب الرئيسية منعطفا خطيرا، لاسيما بعد تزايد الاعتداءات على المسجد الأقصى، واستمرار محاولات تهويده، وتكثيف الحفريات قرب أساساته، بهدف هدمه، وتسريع حكومة نتانياهو لعمليات التهويد ومصادرة أراضي الفلسطينيين. هذا الوضع يفرض على الفلسطينيين – قبل غيرهم – توحيد صفوفهم، ونبذ خلافاتهم، وإيلاء الأقصى جل اهتمامهم، بدلا من الانسياق وراء قضايا حزبية تفرق ولا تجمع، وتضعف ولا تقوي، وينبغي ترتيب الأولويات والتركيز على الأهداف العليا قبل غيرها.
سياسة القوة الناعمة التي مارستها المملكة، بفعالية كبيرة، آتت أكلها بنجاح تام في ظرف وجيز، وأثبتت نجاعتها في مقابل اكتفاء بعض الدول الأخرى بالإدانة والشجب والكلمات المكرورة، التي ما ردت حقا ولا أنصفت مظلوما. ويدل التجاوب الكبير الذي أبداه زعماء العالم على جدية التحذيرات السعودية، وهو درس ليت الآخرين من الصغار يستوعبونه، ويدركون أن اكتساب تلك المكانة الكبيرة هو امتياز لا يشترى بالمال، ولا يأتي باستمالة المرتشين، ولا بدعم الإرهابيين، بل عبر التعاطي الإيجابي مع قضايا العالم، والبذل غير المحدود، فلكي تكون كبيرا ومؤثرا لا بد أن تكون أفعالك دالة على ذلك.