أجدني مرة بعد أخرى مضطرا إلى إعادة الكلام في هذا الموضوع؛ ذاك أن المشكلة لا تزال مخيّمة، وأن التصنيفات جارية على قدم وساق، فهذا أشعري، وذاك معتزلي، وذلك متصوّف، وهذاك سلفي، ولا نزال نرى التراشق والترامي بهذه التصنيفات حتى الساعة، والتي أراها خارج العصر وخارج قضاياه، والتي أرى أن البقاء عليها استمرار في تزييف الوعي، واستمرار في شغل الناس بالسفاسف عمّا هو أهم وأولى.
ذاك أن أولئك المتراشقين لا يزالون أسرى خطابات أنتجت ردّاتِ فعلٍ عن واقع سياسي-اجتماعي لم يعد اليوم موجودًا، وعن أسئلةٍ كانت بنت زمانها وسياقاتها، لا بنت زماننا وسياقاته؛ فما معنى أن يكون الإنسان شيعيا أو سنيا، سلفيا أو أشعريا أو ماتريديا، إباضيا أو معتزليا أو زيديا أو ما شاء أن يتدين به من تلك العقائد؟ هذا خياره الشخصي، وهذا ما وجد عليه آباءه، وما كل أحد بقادر على أن يعيد النظر في مسلّماته، إلا إذا كان خصمه مستعدًا ليعيد النظر في مسلّماته. وإذا ما قال قائل: إني لا أعيد النظر في مسلماتي لأني على الحق، هتف به خصمه: وأنا أيضا لن أعيد النظر في مسلماتي لأني على الحق! فما النتيجة المرجوّة إذًا؟
خذ مثلًا نظرية المعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة التي يحكمون على من يجترحها حتى يموت غير تائب منها، ولا عائد عنها، بأنه فاسق، وأنه في «منزلة بين المنزلتين» وأنه مخلّد في نار جهنم أبدًا، وإن كان عذابه دون عذاب الكافرين. من أين أتى هذا الاعتقاد؟ وكيف أضحى عندهم أصلًا من أصولهم الخمسة؟
يروي الشهرستاني أن رجلًا دخل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة؛ وهم وعيدية الخوارج. وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة. فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟
فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا، ولا كافر مطلقا، بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة.
وبغض النظر عن مقدار قرب هذه الرواية من الصحة أو بعدها عنها؛ نفيد منها أنه كان هناك سؤال يحتاج إلى إجابة، وأنها قضية كانت تشغل الناس عصر ذاك. ويشير بعض الباحثين إلى أن المسألة الكبرى في مرتكب الكبيرة إنما كان المقصد بها الحاكم ذلك الوقت. والمعنيّ به بنو أمية، إذ كان تحوّل السلطة من «الخلافة» إلى «الملك العضود» أمرا صادما للناس، ومخالفا لما كان عليه الخلفاء الراشدون، إضافة إلى ما جرى من اقتتال وسفك دماء، فطرحت هذه القضية التي يمكن أن نسميها «قضية العصر» في ذلك الوقت، فما حكم من فعل كذا وكذا، أيكون فاسقا؟ أم كافرا؟ أم مؤمنا؟
وبكل وصف من تلك الأوصاف تتعلق أحكام شرعية في التعامل معه ولا سيّما إذا كان وليّ أمر، في وقت لم يكن في استطاعتهم فيه التفريق بين الدولة والدين، ولهذا كان كل داعية إلى «بدعة»، هو في الحقيقة داعية إلى «أيديولوجيا» دولة جديدة. والمتتبع للدول القائمة طوال العصور السالفة قبل الدولة الحديثة، يجد أن هناك امتزاجا بين السلطة والدين، فكل من أراد أن يخرج عن السلطة السياسية، دعا إلى عقيدة جزئية أو كليّة. ولذلك تجد مثلًا أن ابن بطّة العكبري في كتابه الإبانة يقول: «المراء في القرآن والخصومة فيه والتعاطي لتأويله بالآراء والأهواء لإقامة دولة البدع وابتغاء الفتنة بغير علم كفر وضلال، نسأل الله العصمة من سيّئ المقال».
فتأمل قوله هنا: لإقامة دولة البدع. وصحيح أن مصطلح «دولة» لم يكن يعني المعنى نفسه في العصر الحديث، لكنه يعني على نحوٍ ما السلطة. ولذلك يقال: دولة العباسيين، ودولة الأيوبيين، ودولة المماليك.... إلخ، بمعنى السلطة.
وهذا نص نفيس – في رأيي – يثبت أن «السلطة» كانت حاضرة عند الحديث عن البدعة والمبتدعة.
لم أسق هذين المثالين إلا على سبيل الاستشهاد السريع، لكن هذه المسألة – بحق – تحتاج إلى بحث وافٍ، ودراسة حافلة، لكن يكفينا أن نشير إليها ببنان التنبيه. فهل الجدل الديني اليوم خال من المقاصد السياسية؟ أزعم أنا أنْ لا.