فلسطينية تعمل كناشطة حقوقية في أحد البلدان العربية أرسلت لي رسالة لأحد المواقع للمشاركة في حملة (تضامنوا مع الأقصى)، فرددت على رسالتها: (بالنسبة لي المخيمات الفلسطينية في الشتات أولى من الأقصى بالتضامن، البشر عندي أهم من الحجر، هكذا فهمت الحياة، وهكذا نستعيد الأقصى عبر الإنسان وليس العكس)، ولأنها محسوبة على ما أظن لأحد الأحزاب الإسلامية فقد أضفت لها (عن عبدالله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وإن نظن به إلا خيرا) رواه ابن ماجة، ثم ختمت رسالتي بقولي: (يا سيدتي الشيطان يكمن في التفاصيل، لا أحد في العالم يمنع الناس من الصلاة في مساجدهم، لكن التفاصيل لا يريد سماعها بعض الفلسطينيين وبعض العرب)، هناك عشرات المخيمات قائمة منذ عشرات السنين ليكون الفلسطيني هو الصورة الحقيقية لمعنى الدياسبورا وليس اليهود.
كلما قالوا المسجد الأقصى تذكرت كل الديانات السماوية التي رعاها عمر بن الخطاب فتجنب الصلاة في كنيسة النصارى هناك كي لا يتخذها المسلمون مسجدا، وكلما قالوا قبة الصخرة تذكرت عبدالملك بن مروان الذي بناها واعتنى بها، أما إذا قالوا فلسطين فلا يأتي على بالي سوى جميع العرب بكل دياناتهم ومذاهبهم من مسيحيين قبلنا ما زالوا موجودين هناك ومسلمين، ويهود لم تضق بهم أمة الإسلام إلا بعد وعد بلفور، فكأنما تحولنا إلى مهماز في خاصرة عروبتنا مسلمين ومسيحيين، فنقصي اليهود العرب من جبال اليمن إلى أقصى زقاق في أحياء المغرب العربي، ونضيق بهم، كأنما نريد أن نقول لهم: هذه الصهيونية تحقق حلمكم، وبعضنا يعلم أن ليس كل يهودي صهيونيا، ولكن كل صهيوني يهودي بالضرورة.
لن أنبش ملفات القضية الفلسطينية لأزايد على الفلسطينيين، ولن يزايد الفلسطينيون على عروبتنا في الوقوف معهم، فكل عاقل يدرك أن القضية الفلسطينية ليست مجرد مسجد، وليست مجرد قبة صخرة، بل هي قضية شعب من لحم ودم، مشتت في المخيمات خارج وطنه منذ عقود، والبقية تعاني شتات الداخل ليتطاحن اليهودي مع المسلم والمسيحي بإشراف الصهيونية التي أسست نفسها كعرابة لكل سادومازوخية تراها في وجه كل طفل (يهودي أو مسيحي أو مسلم) يعيش في أرض الديانات الثلاث معلق القلب بمدينة القدس.
الإنسان أولاً يا من يصرخ لأجل الحجر، فالوجع وجع الناس في المخيمات الفلسطينية في خارج فلسطين بلا أفق، مخيمات شاهدت أحدها من على رأس تل بعيد، ولم يطاوعني قلبي على زيارتها لأني أجبن من احتمال قضايا الضمير داخلها، لكن من السهل على فلان وعلان الحديث عن المسجد الأقصى وقبة الصخرة وتدبيج الخطب الرنانة الشعبوية فيها وبها.
لقد أصبحت فلسطين على أفواه المسلمين كقميص عثمان، يصرخون به طلباً لحق يراد به باطل، وقد ملّ العقلاء من إفهام البسطاء أن طريق القدس لا يمر عبر (جهاد) السوفييت في كابول ولا غزو الكويت ولا تدمير بغداد ولا احتلال بيروت بالسلاح الحزبي ولا الثورة على دمشق بضباع داعش، ولا مكر قطر ولا تذاكي إسطنبول، ولا تطبير إيران، بل طريق القدس يبدأ من نفض التراب عن أقدام أطفال المخيمات في الشتات ليجدوا أفضل تعليم، ومن ثم إرسالهم في بعثات تعليمية لأفضل جامعات العالم، ثم اتركوا هؤلاء الطليعة بالعلم وحده يناضلون في سبيل قضيتهم، وسترون الفرق بين تنوير الأطفال وعسكرتهم.
لن أكون مظفر النواب لأضرب بلغة من قيح الواقع وصديده كي تتعرى الشعارات أكثر، ولكني سأدير ظهري لكل من يقول لي صارخاً ببكاء وعويل: يا لثارات فلسطين أو المسجد الأقصى أو قبة الصخرة، وسأشبك يدي خلفي كما كان حنظلة يدير ظهره دائماً في كاريكاتيرات ناجي العلي التي حكت كل شيء، كل شيء، ليموت مقتولاً لأنه لم يستثن أحداً، ويضيع دمه هباء كضياع شعب في الخيام.