كان التفكير العميق يغلبه والألم فيما يبدو يعتصره، سألته ما بالك يا صديقي؟ أخرج زفرات حارقة وأتبعها «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها…». صديقنا كأي شخص في الدنيا، لديه من الظروف والهموم ما الله بها عليم، غير أن حديثنا اليوم ينصب حول قضية استحضارنا لنصوص دينية تتعرض للدنيا بالذم والتحقير والخسة والدناءة. وكالعادة، فإنه على أثر الموروث الديني، تنطلق أدبياتنا العربية من الحكم والأمثلة والشعر والقصص لتعضد هذا التوجه دون النظر لصحة النص الديني من عدمه، مما يترتب عليه بناء قناعات راسخة يصعب تصحيحها والخلاص من تبعاتها.
حديث «الدنيا ملعونة…» تكلم فيه أهل الحديث من حيث سنده ومتنه. فقد ورد عن جمع من الصحابة بطرق معلولة. والمحفوظ منها رواية أبو هريرة إلا أن فيها رجلا اسمه ابن ثوبان يُعدّ من الضعفاء. وتكلم في الحديث الدارقطني والمديني والدارمي ووصمه الترمذي بالحسن الغريب، وقيل موقوف على كعب الأحبار المعروف بروايته للإسرائيليات، وقال ابن عثيمين عن الحديث في مجموع فتاواه «أظنه ضعيفا». ومنهم من حسنه كالألباني وغيره إلا أن الحسن لا يحسُن اعتماده لكونه في الأصل حديث ضعيف ارتقى للحسن لتعدد طرقه التي لا تخلو من الأوهام والأغلاط.
ومثل هذا الحديث، تترس وراءه ثقافات تسربت إلى تراثنا الإسلامي وتغلغت في فكرنا، أقعدتنا عن العمل والهمة والإنتاج، وطوقتنا بكهنوت اعتبر الرقي والتطلع للغد واستشراف المستقبل عملا مخالفا لأصول الدين.
هذا الحديث والنصوص الأخرى التي حُملت ما لم تحتمل نتج عنها تطبيقات عملية في الإعراض والتجافي والنظرة السوداوية للحياة، وأخرجت لنا قصصاً أقرب للخيال لزهاد لبسوا المرقّع وافترشوا الأرض والتحفوا السماء وهجروا المنازل والأهل والديار لأنهم رأوا أن المنازل والأهل هناك، في الدار الآخرة، والدنيا مجرد سفر، وهل رأيتم مسافرا يبني بيتا في الطريق؟! أُعتبر هؤلاء قدوات يشار لهم بالرمزية في الخطاب الوعظي، مما ترتب عليه بغض الدنيا ومعاداتها، ففقد الكثير منا الأمل والتفاؤل لنصبح خاملين غير منتجين، عالة على الأمم، لا نضيف شيئاً لأنفسنا ولا مجتمعاتنا ولا لكوكب الأرض.
لقد أغفلوا نصوصا أخرى صحيحة كـ «حُبّب إلي من دنياكم النساء والطيب…»، وهل يُعقل أن الرسول الكريم يحب ما كان قد لعنه هو؟! ثم إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن سبابا، ولا فحاشا، ولا لعانا بل قال: «إني لم أُبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة»، عندما قيل له يا رسول الله ادع على المشركين. بل صح أنه عليه الصلاة والسلام وصف الدنيا بأنها حلوة خَضِرة، “والخَضِرة هي الغضة الناعمة الطيبة.
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}، وكيف يستقيم أن تكون اللعنة على ما وصفه التنزيل بأنه زينة الله وطيبات رزقه تعالى؟! وحين نقرأ {ولا تنس نصيبك من الدنيا} نجد التوصية الربانية بعدم نسيان ما قُسم لنا من أنعام وخيرات، الأمر الذي ينفي مسألة اللعن برمتها.
إن معنى اللعن هو الطرد من رحمة الله، فكيف تدخل الدنيا في هذا المعنى؟! وهي التي جعلها خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وجعلها سبحانه لبني آدم مهادا ومسكنا.
وإذا كان الأصل في الأشياء (الدنيا) الإباحة ما لم يرد نص التحريم، كما قرره الأصوليون، استناداً لـ{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا منه} فكيف يتأتى اللعن فيما أصله وجله مباحا؟
إن الذم الوارد في النصوص للدنيا -أقول الذم وليس اللعن- راجع إلى أفعال الإنسان الواقعة في الدنيا لأن غالبها واقع على سبيل الفساد والظلم والعدوان والسلوك غير المحمود.
قال ابن رجب: الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعا إلى زمانها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله تعالى جعلهما خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وليس الذم راجعا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادا ومسكنا، ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع والشجر، ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته بل يقع على ما تضر عاقبته أو لا ينفع.
فذم الدنيا ليس على الإطلاق بل هو ذم من الحيثية المذكورة آنفا، وإلا فإن ذام الدنيا مطلقا هو ممن يحب الدنيا ويهواها لكنه يذمها من جهة فواتها عليه أو تضرره من أهلها. أما لعن الدنيا فهو من المفاهيم الخاطئة التي يجب تصحيحها، في وقت، للأسف، نجد من يرسّخ هذه المفاهيم على المنابر مما يُوقع الناس في حرج في دينهم أمام أنفسهم وأمام شعوب الأرض.