منذ عشرين سنة تقريباً، وأنا في بداية سن المراهقة المرهقة، سافرت مع أقاربي إلى سورية، وشدت انتباهي اللافتات، والشعارات المنتشرة في أنحاء مدينة حلب، فصور الرئيس حافظ الأسد أيامها منتشرة في سائر الطرقات، بل في كافة أنحاء البلاد، وقد شدني منشور حينها، ونحن نسير في مركبة يقودها سائق من أفراد الجيش مكتوب عليها «إلى جنة الخلد أيها الشهيد باسل حافظ الأسد».! تعجبت! فقلت: كيف أصبح شهيداً؟ وأنا في نفسي أقول: أبناء الرؤساء الطغاة لا يقاتلون للذب عن أوطانهم، فكيف يقتل ابن الرئيس شهيداً؟ فرد السائق قائلاً: هو شهيد مات في حادث سير، فقلت: كيف لمن يموت في حادث سير أن يكون شهيداً، فلتفت خالي حينها علي، وقال: هو شهيد، وشهد عليه بالشهادة، وأسكتني حتى نعود لبلادنا سالمين، فعدنا سالمين بلا رجعة.
سقطت سورية بعدها، وأهينت الشعارات التي كانت منتشرة في أرجائها، وحُكم على باسل الشهيد بالنار، ولا تجد شريفاً في العالم الآن لا ينتقد حافظ الأسد، وأبناءه، وعشيرته، والساعة التي استلم فيها حكم البلاد.
إن تقديس الأشخاص، وتمجيدهم بما لا يمكن أن يكون فيهم هو التخلف في حد ذاته، وقد وعت دول العالم الأول هذا الأمر جيداً، فدعموا العمل المؤسساتي، وأسقطوا جميع الشعارات التي فيها تقديسٌ للبشر.
يكثر في المجالس اليوم كلامٌ كثير فيه مدحٌ غزير، قد يصل بعض الأحيان إلى التقديس المرفوض، خصوصاً أننا نعيش في زمن الشهرة والمشاهير، فإن كنّا نمدح دائماً وأبداً فرداً من أفراد المجتمع، ونرى أنه لا مجال للخطأ من أمثاله، فهذا نوعٌ من التقديس الذي قد نتبرأ منه لفظاً، ولكنه واقعٌ حقيقةً.
تقديس الأشخاص لا يقف فقط على زمرة من أفراد المجتمع، بل إن رجال الدين ينال بعضهم منه أعظم الحظ، والنصيب، فيصبحون في نظر العامة معصومين عن الخطأ، مسددين بكل ما يملونه على البشر، ومطاعين بما يذكرون وينصحون. وبهذا ينتشر الجهل بين الناس، ويصبح المجتمع بلا عقلٍ تُسيّره أقوال من تم تقديسهم دون أدنى تفكير.
لا شك أن الكثير من أفراد المجتمع أصبح يستوعب خطورة تقديس الأشخاص، والغالبية العظمى تعي جيداً أهمية العمل المؤسساتي، وأنه سبيل التطور، والنجاح، والاستمرارية، ولا مجال لإغفال حقيقة أن حكومتنا الرشيدة على علمٍ بخطورة تقديس الأشخاص، وتحذر منه، وتحاسب المدانين به، وترفضه بأي حال من الأحوال، فقد أوقف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز كاتباً، ووجه بمحاسبته، بعد أن اتجه الكاتب إلى مدح الملك، والثناء عليه بأوصاف مغالية، جازف فيها.
من الواجب علينا جميعاً ألا نقدس فرداً من أفراد المجتمع، ولا نبالغ في تعظيم أحدٍ بيننا من البشر حتى لا نبدأ في مرحلة لا نتمناها، ولا ينسب إلينا الجهل الذي تبرأ منه كثير من المجتمعات المتحضرة، والدول المتقدمة.