الجماعة أصل من أصول الاعتقاد، وفي منصوص اعتقاد أهل السنة والجماعة قولهم: (ونرى الجماعة حقا وصوابا، والفرقة زيغا وعذابا)، والأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة وآثار السلف كثيرة ومعلومة.

ولقد أتى على الناس في بلادنا قبل الملك عبدالعزيز حين من الدهر، كان فيها واقع البلاد والعباد مخيفا، لما فيه من التفرق والفتن والقتل والخوف والجوع، يصف ذلك الواقع المؤرخ ابن بشر رحمه الله فيقول: (انحل نظامُ الجماعةِ، والسمع والطاعة، وتطايرت شرورُ الفتنِ في تلكَ الأَوْطَان، وتعذَّرت الأسفارُ بين البلدان، وعاثت فيه العساكر المصرية، فقتلوا صناديدَ الرجال، وصادروا أهلها، فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق الظليلات، وهدموا القصورَ العاليات، وصارَ أهلُ نجدٍ بينهم أذلَ من العبيد، وتفرَّقتْ علماؤُهم ما بين طريدٍ وشريدٍ، وثارت في غالب البلدان الفتن، والقتل والمحن، وظهر المنكر، وعدم الأمر بالمعروف، وصار الرجل في جوف بيته وجلاً مخوفاً، وتذكروا ما بين أسلافهم من الضغائن الخبيثة القديمة، وتطالبوا بالدماء، فكل منهم يطلب أولاد أولاد غريمه، فتقاتلوا على سنن ما أنزل الله بها من سلطان...إلخ ما ذكره ابن بشر رحمه الله في تأريخه، فأنعم الله علينا بالملك عبدالعزيز رحمه الله، والذي قاد ورجاله مسيرة التوحيد والبناء، فجمع الله به القلوب والبلاد، وعمَّ الأمن والاستقرار، فأصبح الجميع تحت قيادته بنعمة الله إخوانا متحابين، وواصل أبناؤه وأحفاده مسيرة التنمية والبناء، فأصبح وطننا المملكة العربية السعودية من الدول المتقدمة في جميع المجالات، وبالشكر تدوم النعم كما قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، وبكفر النعم يحصل الخوف والجوع كما قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَت آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون).

فحريٌ بكلِ مواطن، أن يُسْهِم في حِفْظِ هذه النعمة التي وهبنا الله إياها، ولو بشطر كلمة، ولا يكون سبباً في إحلالِ قومه دارَ البوار، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار)، وأن يحفظ هذا المنجز الأمني الذي تعب من أجله الأخيار رحمهم الله، لكونه أمانةً يجب أن نحافظ عليه، لتستلمه الأجيال القادمة.

وكلُ جمرٍ تحت الرماد، يجب أن يُسْكَب عليه الماء لإطفائه، ولا يجوز إذكاؤه، فإن النار بالعودين تُذكى، وإن الشر مبدؤه كلام.

ومن الجمر الذي تحت الرماد: مسلك الإثارة، والتحريش، والاستعداء، والانتماءات الحزبية، وإذكاء العصبيات والنعرات، والاستهانة بالولاية، وملء القلوب عداوةً وبغضاء، فهذا كله داءٌ يجب استئصاله، وهو من سنن الجاهلية، وأبغضُ الناس إلى الله - كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري - مُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية.

والوطنُ والقيادةُ في نظري كخيمة الراعي تَسَعُ الجميع، ويستظل بظلها جميعُ الرعية، مما يُحتِّم على الجميع المحافظة عليها، فالحذر الحذر من الاستعداء الظالم، وتشكيك الناس في ولائهم لوطنهم وقيادتهم بالظن والهوى، فإن هذا المسلك هو أحد الأسس التي تقوم عليها الفتن، فالخطأ لا يسكت عنه، وإنما يعالج بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، واستنهاض الهمم، وبيان تناقض المتخاذلين، وسوء جنايتهم بالسكوت عن الحق، فضلا عن التكلم بالباطل، لابد من البيان بعلم وعدل، ولكن من الخطأ الفاحش أن يُعالج بالاستعداء والسب والشتم والمزايدة على وطنية المواطنين بالظن والهوى، ولا ينبغي أن يتولى المعالجات من يتكلم بجهلٍ وظلمٍ وشماتة، ويرمي الفتيل هنا وهناك، لأن ذلك يؤدي إلى انقسام الوحدة الوطنية، وهو ما يتعارض مع النظام الأساسي للحكم، فقد نصت المادة الثانية عشرة على ما يلي: تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام.

ومعلوم أن القلوب إذا تنافر ودها، تكون كالزجاج كسرها لا يُشعب، ولو حُيِّد أصحاب المواقف السيئة ممن يتكلم بالباطل، أو يخرس عن الحق، وأُبعِدوا عن أماكن التأثير، ليَحل أهل العلم والعقل والاتزان مكانهم، لكان لذلك ثمرة طيبة ولو على الأمد البعيد، ولا حاجة حينئذٍ للسب والتهم ورديء الكلام، لأن السب والاتهام يخلق الأعداء، ويُكثِر الخصوم، ويضرب أبناء الوطن بعضهم ببعض، ويستعدي الناس على وطنهم وقادتهم، وهذا المسلك لا خير فيه، بل هذا عين ما يُريده الأعداء، وإنما المصلحة في نظري هي في تحبيب الراعي إلى الرعية، والرعية إلى الراعي، والتذكير بأهمية الدفاع عن ديننا ووطننا، بأسلوب حسن، واستنهاض همم السلبيين ممن سكت عن الحق، أو تكلم بالباطل ليصطف مع وطنه، وتذكيرهم بأنه لا قيمة لهم بدون وطنهم وقيادتهم، ومن مصلحة الجميع الحفاظ على أمن الوطن واستقراره، ولا يُعان الشيطان على أحدٍ من أبناء الوطن، بل يُرَد من أخطأ إلى الجادة ما أمكن ذلك، فإن رجع إلى الحق فالحمد لله ويكفي، وإن استمر على ضلاله، فالتعزير الشرعي جزاؤه، وليس الصخب والضجيج، وليعلم كل مواطن أن حفظ أسوار بيوتنا التي فيها أبناؤنا وأسرنا، لا يتم إلا بحفظ سُور وطننا الكبير، المملكة العربية السعودية، فمن اخترق سور وطننا – لا قدر الله - فسيخترق سُور بيوتنا، ولكن إن شاء الله لن يتم لهم ذلك، وفي أبناء هذا الوطن عرق ينبض، والمأمول من كل من زلت به القدم أن يرجع إلى الحق، ويصلح، ويبين، والتوبة تجب ما قبلها، قال تعالى: (إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم).