«إذا أردت أن تهدم حضارة أمة، فهناك وسائل ثلاث هي: هدم الأسرة، وهدم التعليم، وإسقاط القدوات والمرجعيات... فإذا اختفت الأم الواعية واختفى المعلم المخلص وسقطت القدوة المرجعية، عندها تسقط الأمة بسقوط فكرها»، يتضح من مقولة الدكتور مهدي المنجرة أن التعليم يشكل أحد أهم الركائز لارتقاء الحضارات.

عزيزي القارئ، أعلم يقينا أن العنوان يعطي انطباعا سلبيا من الوهلة الأولى، وقد يظن البعض أن تعليمنا في كفة والتعليم الأجنبي في كفة، بل في مدار آخر.

ولكنني أكتب مقالي هذا بناء على ملاحظة دقيقة، وتجربة حديثة غيرت نظرتي إلى تعليمنا. منذ عام 2015 إلى عام 2016 عملتُ مساعد باحث دكتوراه في جامعة «وين ستيت ديترويت» في ولاية متشجن الأميركية، كان أساس البحث عن مدى معرفة الأسر السعودية بمزايا التعليم الحكومي أو العام «public schools» للأسرة والطفل.

من بعض هذه المزايا، حصول الأسرة على تخفيض في أماكن ومرافق معينة، واستشارات طبية للطالب في بعض الحالات الصحية، وكثير من الخدمات الأخرى.

استفدتُ خلال عملي كثيرا من المهارات والخبرات النظرية والتطبيقية، ولكن ما تأصَّل في نفسي، هو ردود أفعال الأمهات -من مختلف المستويات التعليمية- عند سؤالهن سؤالا بسيطا: هل هنالك فرق بين التعليم الأميركي والسعودي؟

كانت إجابة جميع الأمهات واحدة، وهي: كلا، لا يوجد فرق، أو حقيقة لم أرَ أي فرق يذكر أو هنالك فرق واحد فقط.

كمساعد باحث، لم أتوقع أن الإجابات ستأخذ هذا المنحى الإيجابي، لأن ذلك منافٍ لفرضية البحث الأساس «research hypothesis».

من هنا، حاولت تفسير أسباب تذمرنا الأزلي ومطالباتنا المتواترة لوزراء التعليم على مر الزمان، بتجديد وتطوير وتعطير المناهج السعودية.

إن المشكلة ليست في مناهجنا، فقد شَكّلت وأَخرجت طلابا «متوحشين» دراسيا، كما وصفت لي دكتورتي الأميركية.  خلال السنوات الست لي في أميركا، حاولت مقارنة وتقييم مستوى وأداء أبناء بلدي في الخارج من الزملاء والزميلات، فوجدت أنهم متوحشون، بل مفترسون حقا.

في تخصصي للماجستير، كان هنالك كثير من الطلبة السعوديين الذين تخرجوا بتقدير ممتاز وجيد جدا مرتفع مع مراتب الشرف، ولن أنسى زميلنا سلطان -جزاه الله خيرا- الذي خصص يوما لشرح الدروس المعقدة للسعوديين والأميركيين!

مناهجنا ينقصها شيء واحد، سأفصله في مقال آخر لاحقا، أما النظام التعليمي برمته بحاجة إلى معطى موجودا ولكنه بحاجة إلى التقنين والتفعيل، وهو «أسلوب شرح المعلم في الفصل وتعامله مع الطالب والأهالي».  لنقسم هذا الإشكال إلى قسمين، ونفكر في حلول عقلانية له.

أولا، فيما يخص مسألة أسلوب شرح المعلم للمنهج، ربما يصفه الطلبة بالممل، وأحادي الوتيرة، سواء في الصوت أو الأفكار.

والحل يكمن في إيجاد وتفعيل البرامج النوعية لإعداد المعلمين، وإثراء البرامج التربوية «برامج التدريب التربوي» بأساليب الشرح المتنوعة «قصة، ألعاب تعليمية، تعليم تفاعلي، قراءات خارجية، فيديو تعليمي...إلخ»، وفنون الحوار وعلم نفس نمو الطفل، كي يتعامل المعلم مع مختلف عقليات الطلبة والطالبات الناشئة، كما تتجلى أهمية معرفة أساليب إدارة النقاشات وحل الأزمات والمشكلات، كي يهرع إليها المعلم حين تعرضه للأهالي «الغاضبين والمتذمرين دوما».

عادةً ما يطبق الخريج تربية عملية لفصل دراسي يتيم، ثم يدخل في سنة التجريب الأولى «غير المفعلة»، وذلك نظرا لعدم وجود آلية تقييم فعلية وفعالة، نظرا لاحتياج جميع من «تحت التجربة» هذه السنة.

ثانيا، عندما ذكر معظم الأمهات أسلوب تعامل المعلمين معهن، أشرن إلى التعاون والترحيب والتواصل معهن حول المستجدات على الدوام، كذلك الاهتمام بالطالب ونفسيته، مربيا أولا ثم معلما.  فالمعلم يلاحظ نفسية الطالب والتغيرات التي تطرأ على تحصيله العلمي والدرجات، فلا يتسرع ويلقي اللوم على الطالب، وينهال عليه بالزجر وخصم الدرجات.

هنالك حوار واهتمام، فجميع المعلمين يتواصلون مع الآباء عن طريق تطبيق «ادمودو» المفعل في بعض مدارسنا في السعودية، إثر جهود إدارة بعض المدارس الحكومية والأهلية. نقطة مهمة لدينا، كيف نجعل المعلم يقوم بكل هذه الأمور، وكيف نحول نفسيته من معلم «يشرح منهجه فقط» إلى مربي أجيال؟

الحل في تطوير نظام الحوافز وتفعيله سنويا بطرق مبتكرة. مثال على ذلك مكافأة المعلمين على #بند_105 بحساب سنوات الخدمة، في حال أثبت المعلم جدارته في النقطتين السابقتين «طريقة شرح متميزة وأسلوب تعامل راق مع الطلبة والأهالي»، فتتم مكافأة عدد محدد من كل مدرسة.  أيضا، في ظل غياب احترام المعلم، تستطيع وزارة التعليم مكافأة طالب من كل مرحلة دراسية، بمنحه بعثة شرفية «للابتدائي والمتوسط» وبعثة دراسية «للمرحلة الثانوية». «فالطالب القدوة» في تعامله واحترامه «للمعلم» سيُمنح هذه المميزات مثل الطالب المميز دراسيا، وهذه فكرة ليست مستحيلة، ومطبقة على أرض الواقع في بعض المدارس الأهلية بمكة المكرمة.

السلك التعليمي يجب أن يكون أرقى مجال يختاره الباحث عن عمل، وأول مهنة تخطر على بال أطفالنا عندما نطرح عليهم سؤالنا المعتاد: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر يا بابا؟

فقد سمعت إجابة مراهقة على السؤال: أريد أن أصبح أي شيء إلا معلمة!  إن إعادة النظر في سلم الرواتب والمكافآت كفيلة بأن تجعل المعلم يدخل إلى مدرسته مستشعرا قيمته الحقيقية التي رددها وحفظها منذ الأزل «قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا».

ختاما، أقف احتراما وتبجيلا لكل من علمني حرفا، وشد على ساعدي ليصل صوت قلمي وفكري إليكم اليوم، شكرا.