ازدادت مؤخرا برامج حفظ النعمة في مجتمعنا بشكل ملحوظ، ومع نبل الهدف الذي أسست من أجله، وسلامة نية إخواننا وأخواتنا المتطوعين والمتطوعات، إلا أن تزايدها يعني في الحقيقة ازدياد الطعام المهدور في بيئتنا، والذي كان من المفترض حفظه قبل أن يعدّ للاستهلاك. فمعالجة الأثر لا تعالج المشكلة، بل قد تسهم في جعلها جزءا من الأمر الواقع، هذا الحفظ المزعوم يخدِّر ضمائرنا تجاه أكوام الطعام التي نراها بعد المناسبات، بدعوى وجود من يعدّها للاستهلاك ويحملها للمحتاجين.
تبدأ رحلة الهدر عادةً وكأي سلوك آخر في بيوتنا، فعندما تعتاد عين الطفل على منظر الطعام الفائض على مائدة الطعام، ويكتسب ثقافة التخلص من الأكل الزائد في سلة المهملات دون تورّع عن رمي الطعام مع النفايات الأخرى، لن تستنكر عينه ذلك، ولن يفكر قبل أن يملأ طبقه بالطعام في البوفيه المفتوح، إذا كان فعلا سينهي ما وضعه في الطبق أم لا!
الظاهرة الأخرى في مجتمعنا، هي مبادرات تنظيف المتنزهات.
الحقيقة، أن المتنزهات لم تكن لتتسخ وتحتاج متطوعين لتنظيفها، لو أبدى روادها وعيا كافيا بأهمية الحفاظ على نظافة الأماكن العامة. رحلة هذا الوعي تبدأ أيضا من المنازل، وتعززه المدارس، وبقية ممارسات أفراد المجتمع التي تعي أهمية المشاركة في حفظ الممتلكات العامة، وعواقب الإخلال بذلك.
مبادرات تنظيف المتنزهات ظاهرة نبيلة أخرى انتشرت بين المواطنين والمقيمين في بلادنا، كردة فعل على ظاهرة رمي المخلفات، والواقع المؤلم للمتنزهات والشواطئ والأماكن العامة، ولعل أحدث هذه المبادرات هي مشاركة الأمير منصور بن مقرن، نائب أمير منطقة عسير، في تنظيف متنزه السودة.
هذه المبادرات على أهميتها وسمو أهدافها لم تكن لتبرز الحاجة إليها لو عالجنا الأسباب المؤدية إلى وجود المخلفات عوضا عن معالجة الآثار.
ماذا لو استهدفنا الجانب الآخر من المعادلة، وسعينا إلى مساعدة المجتمع في مواجهة ومعالجة مساوئ عاداته الاستهلاكية؟ هل بالإمكان أن نضع حدا لبرامج حفظ النعمة ومبادرات تنظيف المتنزهات، بحيث يصرف المتطوعون جهودهم في أمور نوعية وتخصصية أكثر؟
الحقيقة، أن استحداث جهاز الشرطة البيئية أولى وأنفع لمجتمعنا وبلادنا من جمعيات حفظ النعمة، ومن مبادرات تنظيف المتنزهات.
لذلك، آمل أن تبادر وزارة الشؤون البلدية والقروية باستحداث هذا القطاع، وضمه إلى خطتها الإستراتيجية، على أن يكون من أولى أولوياته تقليص الهدر الغذائي والوصول به إلى أدنى مستوى مسجل في العالم، وكذلك معالجة مشكلة رمي المخلفات في المتنزهات والأماكن العامة بشكل نهائي. ولا بد أن تتضمن خطة العمل أيضا حزمة من الأنظمة والقوانين والغرامات الموجعة، كي نعالج هذه الظواهر المسيئة للمجتمع، والتي لم تُجْدِ معها التوعية نفعا.
عندما يصحو المجتمع على حقيقة وجود أفراد من الشرطة البيئية، ذكورا وإناثا، مهمتهم ضبط العادات الاستهلاكية خلال تسجيل مخالفات المسرفين، وتغريم من يثبت عليه رمي المخلفات، عبر تسجيل بياناته وإصدار مخالفة له في موقع الحدث، وتغريمه ماديا مع مضاعفة الغرامة في حال تكررت منه المخالفة، سيفكر كل منا مليا قبل أن يرمي المخلفات، أو يسرف في موائد الطعام في الأماكن العامة.
أما إذا بقينا نعالج الآثار ونتغافل عن الأسباب الرئيسية للظواهر، ونتطوع في إصلاح ما يفسده غيرنا بلا أي عواقب عليهم، فسيظل الخلل موجودا، بل وسيكتسب صفة الأمر الواقع الذي لا يمكن التخلص منه.