القيادة في الطرق الطويلة تجربة مختلفة، وفي أحيان كثيرة ممتعة. من أبرز ملامح تلك التجربة التعاون بين السائقين. هذا التعاون يظهر جليا في الطرق الفردية، إذ يتقاسم أصحاب الوجهات المتناقضة الطريق ذاته. هذا التعاون يظهر جليا في اللغة التي يستخدمها السائقون لتنبيه بعضهم. مثلا عند التجاوز فإن السيارة التي أمامك، خصوصا الناقلات الكبيرة، يشير لك بالإشارة اليمنى إذا كان الطريق المقبل خاليا، وإمكان التجاوز متاحا.
في المقابل، فإنه يستخدم الإشارة اليسرى لتنبيه من خلفه عن قدوم سيارة في المسار الآخر، وتعذر القيام بعملية التجاوز. هذا التعاون يحدث بين أفراد لا يعرفون بعضهم، ولكن جمعهم الطريق، وربما أنشأ بينهم علاقة فاعلة.
مثال آخر نشأ حديثا مع كاميرات ساهر، إذ يتعاهد السائقون تنبيه بعضهم بعضا عن وجود كاميرات مراقبة السرعة. هذا الأمر يتكرر مع مرور إبل أو أغنام في الطريق.
كل هذه السلوكيات تحيل إلى حالة من التعاون بين سائقي الطرق الطويلة تحتاج إلى تحليل. هذا التحليل يمكن أن يمتد من قضايا طبيعة السلوك البشري، وهل هو غيري أم أناني؟.
هل هذه السلوكيات التي تنتشر بين السائقين تشير إلى طبيعة السلوك «الغيري» القائم على العناية بالآخرين الذين لا نعرفهم؟ أم أن هناك قصة وحسبة يمكن أن تضع لنا هذا السلوك ضمن إطار أناني ذاتي؟
التحليل يمكن كذلك أن ينطلق باتجاه قضايا أكثر تحديدا وأقل تجريدا للمقارنة بين سلوك السائقين في الطرق الطويلة، وبين سلوكهم في الطرق القصيرة، وداخل المدن المزدحمة. الملاحظة التي تثير هذا المستوى من التحليل، هي تغير سلوك السائقين بين المجالين: في الطرق الطويلة تغلب روح التعاون بين قائدي المركبات، وفي داخل المدن تغلب روح الأنانية بين القائدين أنفسهم. في هذا المقال سأحاول الإطلالة على كلا المجالين.
الجدل القديم الحديث حول طبيعة السلوك البشري وعلاقته بالآخر يمكن وضعه ضمن احتمالين: الإنسان أناني بطبيعته، وكل سلوك يقوم به فلا بد أن يكون له نفع شخصي منه. الاحتمال الثاني أن سلوك الإنسان يحوي سلوكا غيريّا: سلوك يسعى إلى العناية بالآخر وجعل الآخر أولوية على الذات.
من البداية، يمكن ملاحظة اختلاف بين الأطروحتين: أطروحة أنانية الإنسان أطروحة كليّة: كل سلوك الإنسان أناني. في المقابل أطروحة الغيرية أطروحة جزئية: بعض سلوك الإنسان غيري.
الأطروحة الجزئية متواضعة بطبيعتها، وتجعل من إثباتها أسهل. يكفي الحصول على مثال واحد من أجل إثباتها. في المقابل، الأطروحة الكلية من الصعب إثباتها، لأنه لا يمكن إحصاء السلوك البشري بالكامل. يكفي لنقض الأطروحة الكلية مثال واحد مناقض. بالتأكيد التاريخ البشري مليء بالتضحيات. يكفي أن نتذكر أولئك الذين يضحون بأنفسهم من أجل إنقاذ الآخرين في كل موسم أمطار يمر على السعودية. الرد المتوقع عند ذكر مثال التضحيات هو التالي: صاحب التضحية أيضا لديه دافع ذاتي للقيام بالتضحية. بمعنى أن ذلك الذي أنقذ الآخرين في وقت الأمطار لديه دافع ذاتي كالحصول على الإعجاب والثناء، أو الثواب الديني أو على الأقل الرضا الذاتي. هنا تصبح دعوى الأطروحة الأنانية كالتالي: السلوك الغيري لا بد أن يخلو من أي غاية ذاتية. بهذا يصبح السلوك بالدافع التالي سلوكا أنانيا: أنا أقوم بمساعدة الآخرين لأنني أعتقد أنه حق لهم عليّ. هنا سيرد صاحب الدعوى الأنانية: هذا الفعل أناني لأنه يعطي صاحبه شعور الرضا بالقيام بالعمل الواجب عليه. هنا يتضح أن العمل الغيري بحسب الدعوى الأنانية لا يمكن أن يتحقق إلا حين تنتفي العلاقة بين الفرد وسلوكه أي أن يتصرف بلا إرادة ولا هدف، وهذا يقضي على السلوك البشري بطبيعته.
الأطروحة الغيرية لا تنفي وجود معنى ذاتي للسلوك الغيري، ولكنها ترى أن هذا المعنى ناتج عن الشعور بالالتزام والمسؤولية تجاه الآخر. هذا يعني أن السلوك الغيري فعلا يؤدي إلى الرضا عن الذات، ولكن الغيرية تنبع من كون الرضا عن الذات ناتج عن مساعدة وخدمة وضيافة الآخر.
النقاش أعلاه سعى إلى إثبات إمكان السلوك الغيري عن الإنسان ووجوده، فهل ينطبق هذا على سلوك السائقين أعلاه؟
في رأيي، أنه ينطبق فعلا، وهو مثال على غيرية الإنسان ورغبته في مساعدة أشخاص لا يعرفهم. لماذا إذن يتغير سلوك هؤلاء السائقين داخل المدن؟
في رأيي، أن القيادة في المدن اختبار أقسى لخيرية الإنسان. الطرق الطويلة توفر للناس متسعا من الوقت والمساحة تقلل من حالات التنافس والتصارع بينهم. في المقابل ترفع درجة ارتباط سلوك السائقين ببعضهم في المدن الكبيرة. في زحام المدن تكون الحسبة دقيقة جدا وسلوك السائقين الآخرين يؤثر مباشرة على فرصك في الحركة والقيادة، لذا فالمدن هي الاختبار الأكبر للالتزام الأخلاقي عند سائقي السيارات.
هنا تكمن أهمية التنظيم ودور إدارة المرور في أنها تخفف من ضغط السائقين على بعضهم، خلال طرف ثالث محايد يتحمل مسؤولية الدفاع عمن يتعرض للظلم والاعتداء.
غياب الطرف الثالث يجعل من المشهد قريبا من الغابة التي يفترس فيها القوي الضعيف.