من خصائص دين الإسلام ونعم الله تعالى التي خص بها المسلمين دون من سبقهم من الأمم: أن هيأ لنبيهم صحباً كراماً آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ فقضى الله لهم بالفلاح في كتابه الكريم حين قال: ?فَالَّذينَ آمَنوا بِهِ وَعَزَّروهُ وَنَصَروهُ وَاتَّبَعُوا النّورَ الَّذي أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ?، وأنعم عليهم بالرضا وأخبر سبحانه أنه أعد لهم الجنات ولما يزالوا في حياتهم الدنيا كما قال: ?وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنّاتٍ تَجري تَحتَهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ?«100 التوبة»، ووصفهم سبحانه وتعالى على الإجمال مرات وعلى التفصيل مرات أُخر بالجليل الكريم من الصفات، كالشدة على الكفار، والرحمة بينهم، وكثرة التعبد لله والصدق والفلاح ونقاء القلوب وتنزل السكينة عليهم، وأمر عز وجل نبيه بالصلاة عليهم ?وصَلِّ عَلَيهِم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُم وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ?، وفضل الله عز وجل بعضهم على بعض، لكنهم مع هذا التفاضل سواء في الوعد الصريح بالجنة، ولا يخلف الله الميعاد ?لا يَستَوي مِنكُم مَن أَنفَقَ مِن قَبلِ الفَتحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنفَقوا مِن بَعدُ وَقاتَلوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحُسنى وَاللَّهُ بِما تَعمَلونَ خَبيرٌ?.
فكانت النصوص الدالة على تزكية الله لهم ووعدِهم بالجنة وثناءِ الله تعالى عليهم في عشرات المواضع من كتاب الله عز وجل ما بين نصوص صريحة لا تحتمل التأويل كقوله تعالى ?وَالَّذينَ آمَنوا وَهاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّهِ وَالَّذينَ آوَوا وَنَصَروا أُولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حَقًّا لَهُم مَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ وَالَّذينَ آمَنوا مِن بَعدُ وَهاجَروا وَجاهَدوا مَعَكُم فَأُولئِكَ مِنكُم وَأُولُو الأَرحامِ بَعضُهُم أَولى ببَعضٍ في كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ? وكالآية المتقدم ذكرها من سورة التوبة، أو الآية التاسعة والعشرين من سورة الفتح، أو الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الحشر، وما بين آيات تدل على ذلك بدلالة الالتزام أو التضمن أو السياق، كقوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ?.
وأمر الله تعالى من جاء بعدهم بالدعاء والاستغفار لهم ومحبتهم حين قال تعالى ?وَالَّذينَ جاؤوا مِن بَعدِهِم يَقولونَ رَبَّنَا اغفِر لَنا وَلِإِخوانِنَا الَّذينَ سَبَقونا بِالإيمانِ وَلا تَجعَل في قُلوبِنا غِلًّا لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحيمٌ?، وهو أَمْر جاء في صيغة الخبر، وهذا من أبلغ صيغ الأمر في الدلالة على الوجوب.
وهؤلاء الذين جاؤوا من بعدهم، هم من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشرف بالهجرة ولا النصرة، ومن جاء بعدهم من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فكلهم مأمورون بما تضمنته هذه الآية من الدعاء والاستغفار والمحبة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما فهمه كل أئمة علماء المسلمين من القرن الأول وحتى يومنا هذا من علماء أهل الحديث وفقهاء الرأي والأشاعرة والماتوريدية والظاهرية والصوفية، فليس من هذه الفرق إلا من هو معظِّم للصحابة قائل بعدالتهم مقر بتزكية الله تعالى لهم، ومن هؤلاء أكابر علماء الحديث والفقه واللغة وعلم الكلام والمنطق والسلوك؛ فليس تعظيم الصحابة وتحريم الخوض فيهم مما اختص به الحنابلة أو ابن تيمية كما يصور البعض، بل هي مسألة إجماع أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولم يخالف في ذلك إلا فرق لا تُعَظِّم النص القرآني بل ولا تَعِيه، وهم الروافض والخوارج وبعض المعتزلة، حيث يشتركون في القول بتكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، على خلاف في داخل مذاهبهم في تحديد من يحكمون عليه بالكفر منهم.
والحقيقة: أن هذه المذاهب لا تشترك في تكفير الصحابة أو بعضهم وحسب، بل يشتركون في القول بتكفير الأمة، ولذلك فليس قولهم هذا خارقاً لما قدَّمْتُه من إجماع الأمة على تعظيم الصحابة.
ومنذ ظهور حركة إحياء الاعتزال في العالم العربي والإسلامي منذ بداية القرن الميلادي الماضي، أو ما سُمِّي بالحركة العصرانية، ولا يزال يخرج كل بضع سنوات بعض الكتب ومن يتزيون بزي البحث العلمي يتعمدون مخالفة قول الله تعالى ?وَالَّذينَ جاؤوا مِن بَعدِهِم يَقولونَ رَبَّنَا اغفِر لَنا وَلِإِخوانِنَا الَّذينَ سَبَقونا بِالإيمانِ? كما يتعالون على آلاف أذكياء العلماء خلال أربعة عشر قرناً، ويزعمون أنهم أدركوا بعقولهم وبحثهم ما لم يدركه من قبلهم ليجعلوا شغلهم الشاغل تأصيل الانتقاص من الصحابة جملة أو الانتقاص من آحادهم تفصيلاً، فيزعم أحدهم أن هذا من التجديد الفكري، ويزعم آخر أنه نقض لأصول الوهابية المتحجرة الإرهابية بزعمه، وكأن تعظيم الصحابة حكر على محمد بن عبد الوهاب ومن جاء بعده.
والذي لا بد من التنويه إليه أن حركة العصرانية وإحياء الاعتزال قامت مرتبطة بالاستشراق المموَّل من الاستعمار، وكان من أهدافها عزل الثقافة الإسلامية المعاصرة عن مصادرها، وهي بلا شك النتيجة المتوخاة من إسقاط الصحابة رضي الله عنهم، فحين يزول تعظيم هذا الجيل من النفوس فسوف يزول تعظيم الكتاب والسنة اللذين هم نَقَلَتُهما إليها، ولذلك فإنه يندر أن تجد كاتباً شغل نفسه بانتقاص بعض الصحابة إلا وانتهى به الأمر إلى انتقاص جميعِهم ثم إنكارِ حجية السنة النبوية ثم التشكيكِ في القرآن الكريم، وهذا ما يُراد أن يصل إليه الجيل المسلم عبر الترويج لأمثال هؤلاء تحت أوصاف الفكر والحرية والتصحيح.
وكثيراً ما يحاولون الوصول إلى العقول عبر استخدام القرآن نفسه، وذلك بتنزيل الآيات الواردة في المنافقين على كل الصحابة أو آحادهم كقوله تعالى ?وَمِمَّن حَولَكُم مِنَ الأَعرابِ مُنافِقونَ وَمِن أَهلِ المَدينَةِ مَرَدوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعلَمُهُم نَحنُ نَعلَمُهُم سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَينِ ثُمَّ يُرَدّونَ إِلى عَذابٍ عَظيمٍ?، فإذا كان الله أخفى المنافقين عن رسوله صلى الله عليه وسلم بادئ الأمر وهو بينهم، ولم يعلم بهم إلا بوحي من الله تعالى، ونهاه لحكمة إلهية عن الإعلام بأسمائهم فكيف تسنى لهؤلاء بعد أربعة عشر قرنا معرفتهم، بل والحكم على بعضهم بالدرك الأسفل من النار كما فعل أحدهم.
وسوف يكون لي حديث مستقل عن المنافقين في العهد النبوي إن شاء الله تعالى.
ومن المشككين في الصحابة من يستخدم من القرآن الآيات التي وردت في تربية الصحابة رضي الله عنهم كقوله تعالى ?وفيكم سماعون لهم?، وقوله ?ألم يأن الذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله?، ?يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَرفَعوا أَصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيّ?، ?يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا ما لَكُم إِذا قيلَ لَكُمُ انفِروا في سَبيلِ اللَّهِ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضيتُم بِالحَياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ? وغيرها من الآيات التي ناقشت بعض العيوب في المجتمع المدني لإصلاحها وتهيئة هذا الجيل ليقود العالم بأسره بعد سنوات قليلات من نزول تلك الآيات، وحين يُرَبِّي القرآن الصحابة فلابد من تذكيرهم بعيوبهم التي يراد إصلاحها، وهذا لا يعارض لغةً ولا عقلاً تزكيةَ الله لهم ووعدهم بالجنة، وهو ما فهمه كل مفسري القرآن طيلة القرون الخالية، بل قد نصت آية أخرى على ذلك، وهي قوله تعالى ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً?. كما أن أكثر هذه الآيات المؤدِّبَة مُصَدَّرة بالخطاب للذين آمنوا، وهذا في ذاته شهادة من الله لهم بالإيمان.
والقول بغير هذا يفضي إلى القول بتناقض آيات القرآن، وهي نتيجة للأسف يصل إليها دائما أولئك المشككون في الصحابة، حيث كثيراً ما تنتهي أطروحاتهم إلى القول بتحريف القرآن.
وكان لهم متسع لو صلحت نياتهم في قوله تعالى ?تِلكَ أُمَّةٌ قَد خَلَت لَها ما كَسَبَت وَلَكُم ما كَسَبتُم وَلا تُسأَلونَ عَمّا كانوا يَعمَلونَ?.