تطرّقت المقالة السابقة إلى أنه لا يوجد تقريباً مجتمع نشط في العالم إلا وفي نسيجه خيوطٌ من العمالة الوافدة، بغض النظر عن غناه وفقره، وعن انفتاحه وانغلاقه. وعمدتُ إلى وصف هذه العمالة الوافدة من حيث موقعها من المجتمع بأنها خيطٌ من نسيج وليس رقعة في ثوب، وذلك لأنها تشارك المجتمع في حاله ومآله، وتقتسم معه أسباب الرزق ومسالك الكدح، وتؤثر في ثقافته وتتأثر بها، ويصعب تصوّر المسار الذي كان سيسلكه المجتمع إذا ما نزعت من تاريخه هذه الجالية أو تلك. والأصعب من ذلك هو تتبع الآثار المتشعبة والمتراكمة والمتقاطعة لجالية من الجاليات على حال المجتمع، والتي قد يفشل البعض في تصور أثرها السوسيولوجي الكبير وصبغتها الثقافية المموهة. وهذه هي صفة الخيط من النسيج، أما رقعة الثوب فهي غريبة على نسجه ولونه، وملقاة عليه سداً لثغرة سياسية أو اقتصادية عابرة، أو تبعاً لورطة تاريخية لم يفلح الأولون في حسمها.

ومن وجهة نظري أن العمالة الوافدة في السعودية تحديداً هي خيط من نسيجها الاجتماعي، رغم أن نظام إحلال العمالة الوافدة في السعودية يعدُّ من أكثرها عزلاً للعمالة الوافدة من حيث المخالطة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية ونظام الكفالة، ولكن هذا كله لم يقلل من تأثر الباكستاني بالأسرة السعودية التي عمل فيها، مثلما تأثرت الأسرة السعودية بالمعلم المصريّ الذي علّم أبناءها. وفي البنك مديرٌ هنديّ يؤثر في المسارات الوظيفية لجيل من الشباب السعودي، وفي شركة المقاولات مدير سعوديّ يتحكم في أرزاق قرية كاملة من قرى بنجلاديش. وكذلك بقية الجاليات الأخرى التي عاش منها جيلٌ أو جيلان في السعودية، حتى يفاجئك أحدهم عندما يقدّم لك (إقامته) كهوية بعد أن ظننت كل الظن أنه سعوديّ أباً عن جد.

على الرغم من ذلك لا يزال البعض على قناعة أن جاليات العمالة الوافدة ليست إلا رقعاً متنوعة في ثوبه الذي لم يكتمل حتى اليوم، وبالتالي يمكن نزع إحداها وإحلال أخرى كبديلة لها بسهولة. فيرون أن العمالة البنجلاديشية يمكن الاستغناء عنها ما دام هناك عمالة هندية، والهندية يمكن الاستغناء عنها ما دام هناك فلبينية، والفلبينية يمكن الاستغناء عنها ما دام هناك إندونيسية، وكل هذه الجاليات يمكن الاستغناء عنها دفعة واحدة لحل مشكلة البطالة. وهذه نظرة خاطئة من ناحيتين: الأولى، أنها نظرة ضيقة، تختزل هذه العملية السوسيواقتصادية الكبرى (إحلال العمالة الوافدة في المجتمع) على أنها عملية تبديل قطع غيار في ماكينة اقتصادية ما، فيفشلون في رؤية حاضر مجتمعهم الذي تتعايش فيه كل هذه الجاليات، رغم الطبقية الحقوقية والفروقات الثقافية، ويفشلون في رؤية مستقبله الذي يجب أن يتجه نحوه ضمن السيرورة الحضارية المفترضة للمجتمعات، وما تتطلبه هذه السيرورة من التعايش مع الآخر ونبذ الانكماش على الذات. والثانية، أنها تنظر للعمالة على أنها إما حل لنقص الكوادر أو سبب للبطالة، رغم أن نقص الكوادر والبطالة هما مشكلتا المجتمع قبل أن يفد إليه أحد، ويجب مناقشتهما على ضوء السياسات الاقتصادية، ولكن قصر النظر يدفعنا أحياناً إلى ربط الأسباب الأكثر وضوحاً بصلب المشكلة، والغفلة عن الأسباب الأصلية لها بسبب تشابكها وتعقيدها وعدم وضوحها.

اعتاد المجتمع السعوديّ، منذ الطفرة، أن يحتاج.. فيستقدم. ولما كان دائم الاحتياج وقادراً على الاستقدام، نشأ جيلٌ كامل وهو ينظر للاستقدام على كونه عملية تجارية مباشرة ولا أكثر من ذلك، فإذا انخفضت جودة سلعة من السلع أو ارتفع سعرها استبدلها بأخرى، وإذا فاوض بائع السلعة (دول العمالة) أو وسيطها (مكاتب الاستقدام) صبّ صاحب العمل جام غضبه على النظام الذي لم يضمن له استمرار تدفق العمالة الرخيصة لخدمته بالكيفية المريحة التي اعتاد عليها. مارسنا هذه العملية التجارية أكثر من أربعة عقود، وكانت النتيجة أن النظرة ظلت تجارية قاصرة، حتى اصطدمنا بتعقيدات هذه العملية، وفشلنا فشلنا ثلاثياً: الأول، عندما فشلنا (ثقافياً) في رؤية الحق الواضح لخادمة فلبينية في الحصول على (توصيف عمل)، والحق الواضح لخادمة إندونيسية في الحصول على (بيئة عمل آمنة)، والحق الواضح لعامل بناء بنجلاديشي في الحصول على راتبه (شهرياً) وليس كل ثلاثة أشهر، والحق الواضح لكل هؤلاء الثلاثة في الحصول على ضمان زمنيّ يضمن لهم عدم (الطرد) تبعاً لأي مشكلة سياسية أو شعبية تتعرض لها الجالية ككل. والثاني، عندما فشلنا (اقتصادياً) في استغلال هذا المورد الرخيص المتدفق إلا بقدر ما تمكّنا من تخفيض تكلفة مشروعات الإسفلت والأسمنت، بينما لم نتمكن من إقناع ملايين العمالة الوافدة التي أقامت بين ظهرانينا لأربعة عقود بأن يبقوا رواتبهم في حدود هذا الوطن يوماً واحداً فقط بعد استلامها، وهي أموال - لو نعلم - تكفي لإقامة عدة دول صغيرة في المحيط الهادي. والثالث، عندما (فشلنا) اجتماعياً - وهو الفشل الأخطر - في استغلال وجود الملايين من الجاليات الوافدة من أعراق متنوعة لمساعدتنا في التدرّب على الممارسات العولمية والرؤى التعددية. وبدلاً من أن نفاخر العالم بأننا من أكثر دوله تنوعاً بسبب وجود العمالة الوافدة، تحول ملف هذه العمالة إلى مدخل للنقد الدولي حول حقوقهم الإنسانية والدينية والمادية.

إن المطالبة بإبقاء ملف العمالة الوافدة على ما هو عليه بوصفها عملية تجارية توفر مورداً تجارياً للماكينة الاقتصادية السعودية لا تقل خطأ عن المطالبة بتقليص العمالة الوافدة سعياً لحل مشكلة البطالة. الأولى تؤدي إلى الاستمرار في الفشل الثلاثي الموضح أعلاه، والثانية تفترض حلاً عشوائياً لمشكلة ليست ذات علاقة، فأن تشغر الوظيفة التي كان يشغلها وافد لا يؤدي بالضرورة إلى إشغالها بمواطن، بل ربما أدى إلى إلغاء الوظيفة تماماً لانتفاء منفعتها الاقتصادية في الظرف الجديد. مشكلة البطالة إذن ستستمر حتى لو اختفى من بين ظهرانينا الملايين الثمانية من العمالة الوافدة، بمختلف مستوياتهم الوظيفية، لأن بيئة الاستثمار ستكون أقل جاذبية، وهو مما سيؤثر بشكل مباشر على توفر الفرص الوظيفية.

إذن، علينا أن نبتعد عن الحلول التي تبدو سهلة ومباشرة وهي لا تأخذ في اعتبارها التعقيدات الكبيرة للعملية الاقتصادية والاجتماعية. علينا بدلاً من ذلك أن نركز جهدنا على الملفات الثلاثة التي ربما ستؤدي إلى حلول جذرية لمشاكل العمالة الوافدة وهي: ملف التناغم الاجتماعي الذي يحمل في طياته قضايا المساواة في الفرص والحقوق، وملف السياسات الاقتصادية الذي يحمل في طياته أطرا تنظيمية لتعظيم الاستفادة من هذا المورد البشري المتنوع، وملف المرونة الثقافية الذي يتيح للمجتمع امتصاص الرحيق التعددي من هذا الخليط الثقافي ليكتسب منه تأهيلاً عولمياً يمكنه من التموضع بشكل إيجابي بين شعوب العالم الذي لم يعد التعايش فيه ترفاً ثقافياً، ولا تحسيناً للصورة، بل ضرورة عولمية لم يعد ثمة بد من قبولها، ولا يعدنا تجاهلها إلا ثبورا.