العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله (1307-1376) رزقه الله تعالى، علما وفهما، وخُلُقاً حسنا، وعقلا راشدا، ومعدنا طيبا، وأسرةً كريمة، خَلَّف مجلدات ضخمة في سائر فنون العلم، وخَلَّفَ علماء كبارا كثرا، من أبرزهم في نظري تلميذه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، ومع مكانته العالية جدا في العلم والعمل، فهو إنسان بسيط متواضع جدا، يغشى مجالس أصحابه وعوام بلده في بيوتهم ويبادلهم الأحاديث ويؤانسهم ويمازحهم، ويقضي حوائجهم، بأدب جم، وحسن محادثة ومخالطةٍ للناس، كما نقل لنا ذلك معاصروه، لا يميز نفسه عنهم بشيء، ولم يكتف بتأليف الكتب التخصصية الرصينة، وإنما كتب في كل ما ينفع الناس، ومن ذلك هذه الفوائد والآداب التي هي كالدرر، ومنها قوله رحمه الله:

1. من الآداب الطيبة: إذا حدَّثك المحدث بأمر ديني أو دنيوي، ألا تنازعه الحديث إذا كنت تعرفه، بل تُصْغِي إليه إصغاء من لا يعرفه، ولم يمر عليه، وتريه أنك استفدتَ منه كما كان ألباءُ الرجال يفعلونه، وفيه من الفوائد: تنشيط المحدث، وإدخال السرور عليه، وسلامتك من العُجْب بنفسك، وسلامتك من سوء الأدب، فإن منازعة المحدِّث في حديثه من سوء الأدب.

    ومن الآداب أن تشكر من صنع إليك معروفا قوليا أو فعليا أو ماليا ولو يسيرا، وتبدي له الشكر وبهذا أمر الله ورسوله، وعلى هذا اتفق العقلاء.

2. ومن الآداب الطيبة: الكلام مع كل أحد بما يليق بحاله ومقامه، مع العلماء بالتعلم والاستفادة والاحترام، ومع الملوك والرؤساء بالاحترام والكلام اللطيف اللين المناسب لمقامهم، ومع الإخوان والنظراء بالكلام الطيب، ومطارحة الأحاديث الدينية والدنيوية، والانبساط الباسط للقلوب، المزيل للوحشة، المزين للمجالس، ويحسن المزح أحيانا، إذا كان صدقا، ويحصل فيه هذه المقاصد، ومع المستفيدين من الطلبة ونحوهم بالإفادة، ومع الصغار والسفهاء: بالحكايات والمقالات اللائقة بهم مما يبسطهم ويؤنسهم، ومع الأهل والعيال بالتعليم للمصالح الدينية والدنيوية والتربية البيتية، مع المباسطة والمفاكهة، فإنهم أحق الناس ببرك، ومع الفقراء والمساكين بالتواضع وخفض الجناح، وعدم الترفع والتكبر عليهم، ومع من تعرف منه البغض والعداوة والحسد المجاملة وعدم الخشونة، وإن أمكنك الوصول إلى أعلى الدرجات وهي قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، فما أكمله من مقام، لا يوفق له إلا ذو حظ عظيم.

    واحذر غاية الحذر من احتقار من تجالسه، من جميع طبقات الناس، وازدرائه، والاستهزاء به، قولا أو فعلا، تصريحا أو تعريضا.

3. إياك أن تتصدى في مجالسك مع الناس للترؤس عليهم، وأنت لست برئيس، وأن تكون ثرثاراً متصدراً بكل كلام، وربما من جهلك وحمقك، ملكت المجلس على الجلوس، وصرت أنت الخطيب والمتكلم دون غيرك، وإنما الآداب الشرعية والعرفية مطارحة الأحاديث، وكلٌ من الحاضرين يكون له نصيبٌ من ذلك، اللهم إلا الصغار مع الكبار، فعليهم لزوم الأدب، وألا يتكلموا إلا جواباً لغيرهم.

4. وإذا أخبرك صاحبك أو غيره، أنه أوقع تصرفاً أو عقداً أو عملاً من الأعمال، وكان قد مضى وتم، فينبغي أن تبارك له، وتدعو له بالخير والبركة، وتصوِّبه إذا كان باعتقادك صواباً، فإن هذا يؤنسه، ويشرح صدره، وإياك في هذه الحال أن تُخطِّئه، فتُحدِث له الحسرة والندامة، وقد فات الاستدراك، إلا إذا كان غرضك تعليمه للمستقبل، وأما إذا أخبرك بشيء مما سبق، وهو مستشير لك، ولم يتم الأمر، فعليك في هذه الحال أن تبدي له كل ما عندك من الرأي، وتمحض له النصيحة، ففرقٌ بين ما أمكن استدراكه وتلافيه، مما ليس كذلك.

5. من الغلط الفاحش الخطر، قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حباً أو بغضاً، مدحاً أو ذماً، فكم حصل بهذا الغلط من أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أموراً لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنُمِّيت بالكذب والزور، وخصوصاً ممن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عُرف عنهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبتُ والتحرز، وبهذا يعرف دين المرء ورزانته وعقله.

6. إياك والإصغاء إلى قول النمام فتصدقه، ثم إياك أن تبني على كلامه ما يضرك، ثم إياك أن تبدي له ما لا تحب إطلاع أحد عليه، فإن فعلت فلا تلومنَّ إلا نفسك، وابتعد غاية البعد عنه مهما أمكنك، فإن كان لا بد - ولن يسلم أحد من هذا - فاسمع منه، غير واثق بكلامه، ولا مؤسس عليه، ولا تعطه من الكلام إلا الذي تُوطِّن نفسك على إشاعته وظهوره، واخزن عن هذا النوع ما تخشى مغبته، وتخشى أن يزاد فيه وينقص.

7. كُنْ حافظا للسر، معروفاً عند الناس بحفظه، فـإنهم إذا عرفوا منك هذه الحال، أفضوا إليك بأسرارهم، وعذروك إذا طويت سِرَّ غيرك الذي هم عليه مشفقـون، وخصوصًا إذا كان لك اتصال بكل واحد من المتعادين، فإن الـوسائل لاستخراج مـا عندك تكثر وتتعـدّد، من كلٍّ مِنَ الـطّرفين، فإيّـاك إيّـاك أن يظْفـر أحد منهم بشيء من ذلك تصريحـًا أو تعريضـا، واعلم أن للـناس في استخراج مـا عند الإنسـان طرقـًا دقيقة، ومسالك خفيّة، فاجعـل كل احتمـال وإنْ بَعُد على بالك، ولا تؤت من جهة من جهاتك، فإن هذا من الـحزم، واجـزمْ بأنك لا تنْدم على الـكِتمان، وإنمـا الـضرر والـنّدم في الـعجلة والـتّسرع، والـوثوق بالـناس ثقة تحمِلك على مـا يضر.