يجلس على الأبواب الكبرى في صورة تاريخنا البشري الحديث سيّئو الذّكر؛ المستعمرون الخبثاء، والمحتلّون الوحوش، مطورو القتل الآلي.
هم من تقاسم ويقتسم الواجهة، إنهم مغتصبو الأراضي، ومُحاة القيمة والاعتداد الإنساني، ومبيدو السكان الأصليين أو مستعبدوهم، على يمينهم يجلس الزعماء النيرونيون بكامل ضحكهم وجنونهم، حارقو الأوطان بما ومن فيها.
أما يسار الصورة، فيجلس أبشع سفاحي فكرة العدالة والقوة والتفوق، برتبهم ونياشينهم العسكرية. أما الضحايا، الذين أبيدوا أثناء تحميض هذه العصور المستعرة، فأعدادهم بالملايين.
في أسفل الصورة، يجلس عند مهانة الأقدام والأحذية المستعملة: شياطين المكسب، أصحاب الكيباه والصلبان والعمائم بأنواعها، والدماء كما هو معلوم منذ القدم أهون ما عندهم.
أما التجار الربويون، فلا يجلسون في أي مكان، فهم مشغولون بإرخاء الآمال للجميع، إنهم أبناء السوق الحرة والصورة المتحركة، مبتزّو المحاصيل والأزمات، سادة الأرزاق، ومديرو ما يريده الناس وما لا يريدونه، رغما عنهم.
سيتوزعون على نواحي الصورة كدرجات اللون، بحيث لا يمكن ملاحظتهم، إنهم الممولون والمستعدون لإنتاج أصباغ الأيام الصارخة، وعرض أعز ما على البشر في حياتهم في المزاد والبيع، على مدار الساعة.
يعيش ضمير العالم اليوم أسوأ حالاته، لقد انسحب وهج الأشياء الأصيلة، وثقلها الشعبي، من بهجة الفضاء العام إلى عزلة الحوائط وريبة الجدران، والسماسرة استولوا على كل شيء. ستجد أصغر الخرائط، وبيد مفتوحة بالمال ومصافحة حفنة من معاتيه القتلة وأنذال الظلام، هم من يرفع لافتات الحياة الكريمة، وهم من يعلقون صور الشهداء، وهم من يغني للحرية. هذا الزمن في غاية الحقارة!.
كتب جان لوك، وهو واحد من أعظم مفكري ونقاد عصرنا، في كتابه، محاضراته، «تاريخ الكذب»، الصادر عن المركز الثقافي العربي، بترجمة رشيد بازي: «يتخذ الكذب طابعا إنجازيا، وذلك لأنه يتضمن في الوقت نفسه وعدا بقول الحقيقة وخيانة ذلك الوعد، ويرمي إلى خلق الحدث والدفع إلى الاعتقاد، في حين أنه لا يوجد شيء قابل للمعاينة، أو على الأقل، بإمكان المعاينة احتواءه بصفة شاملة، إلا أن هذه الإنجازية تقتضي في الوقت نفسه الإحالة على قيم كالواقع والحقيقة والخطأ. بإمكان فعل الكذب أن ينتج تاريخانية من نوع آخر، تاريخانية داخلية للكذب». كم أود لو قرأ الذين يبيعون أرواحهم هذا الكتاب!.