من نافلة القول ذكر أن النصوص التي يمكن أن يرجع إليها الفقهاء المعاصرون محدودة، ووقائع حياتهم تتجدد باستمرار، وإنزالهم تلك النصوص على هذه الوقائع يتطلب عقلا راجحا، ووعيا كافيا..
العقول ومنذ الصدر الأول للإسلام متفاوتة، والأفهام مختلفة؛ ومن هنا كان طبيعيا نشوء المذاهب الفقهية، وانتشار العبارة الشهيرة «الاختلاف رحمة»، وكأنها آية أو حديث، وكان مقبولا جدا وجود الاختلاف في الآراء، التي لا يوجد أي حرج في أن يتخير المرء منها ما يطمئن إليه قلبه السليم، ونفسه المستقيمة، تنفيذا للتوجيه النبوي الخالد «استفت قلبك، واستفت نفسك»..
الفقهاء اليوم مطالبون بالاجتهاد المتجدد، ودون أي توقف، وليس من حق أي أحد أن يغلق بابا فتحه سيد الوجود، صلى الله عليه وسلم، عندما قال «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، وهذا هو الذي دعا الإمام الشافعي، عندما وصل مصر، إلى إعادة النظر في الفتاوى والآراء التي قال بها حينما كان في العراق، وهو أيضا ما حدا بالشيخ ابن القيم إلى أن يقول، في كتابه الشهير (إعلام الموقعين عن رب العالمين): «من أفتى الناس بمجرد المنقول على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم، وأمكنتهم، وأحوالهم، وقرائن أحوالهم: فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين، أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم، وعوائدهم، وأزمنتهم، وطبائعهم؛ بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان»..
يتمسك كثير من طلبة العلم اليوم تمسكا حرفيا بنصوص قديمة، ويحاولون الوصول بها إلى حلول لمشكلاتهم الجديدة المعاصرة؛ والحقيقة تؤكد أن الفقهاء السابقين، رحمهم الله تعالى، مع أن لهم علينا مننا كثيرة، إلا أنهم لو عاشوا حياتنا، وشاهدوا ظروفنا، لما وسعهم إلا أن يحكموا على وقائعنا بما يناسبها، خاصة إذا توفرت فيهم (الشجاعة) الكافية؛ ولئلا يكون مقالي نظريا؛ أختمه بمثال عملي واحد، يستحق التفكير فيه، وهو إمكانية تولي المرأة القضاء، وهو الأمر الذي أقره السادة الأحناف، الذين أثبتوا في ظل عدم وجود النص المباشر على المنع؛ أن توليها القضاء في غير قضايا الحدود والقصاص لا غبار عليه، والأمثلة لا تنتهي.