عدة مئات من الأمتار تفصل الجيش العراقي وحلفاءه عن إعلان تحقيق النصر، وإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش، وإنهاء دولة الخلافة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، التي أعلن عنها، أبوبكر البغدادي، من جامع النوري بمدينة الموصل، في منتصف يونيو عام 2014.

كان احتلال تنظيم داعش للأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالي فضيحة للجيش العراقي الذي أسسه السفير الأميركي بول برايمر بعد الاحتلال مباشرة. فقد تمكن تنظيم داعش من السيطرة على أربع محافظات عراقية من دون قتال يستحق الذكر. وقد مكنته الفوضى التي عمت الأراضي السورية، بفعل الأزمة السياسية التي مر عليها أكثر من ست سنوات، من احتلال عدد من المحافظات السورية المحاذية للحدود العراقية، بما جعل الكثير من المحللين السياسيين والمراقبين يعلنون نهاية اتفاقية سايكس - بيكو، التي جرى توقيعها بين البريطانيين والفرنسيين، أثناء اشتعال الحرب العالمية الأولى، والتي قسم بموجبها الجزء الشمالي من مشرق الوطن العربي: العراق وبلاد الشام، بين بريطانيا وفرنسا.

وتتزامن هزيمة تنظيم داعش في العراق مع هزائم متلاحقة له في سورية، حيث تنسق قوات النظام السوري وحلفاؤه مع قوات التحالف الدولي في توجيه ضربات لداعش، ويدحرون ميليشياته في جبهات عدة. ولم تعد لهذا التنظيم سيطرة تستحق الذكر، على المناطق الحدودية بين سورية والعراق. ووجوده في بعض المحافظات السورية الحدودية هو وجود مؤقت ومحفوف بالمخاطر على قواته. وبهذا تكون شأفة تنظيم دولة الخلافة على حافة الاستئصال بالبلدين معا.

ذلك لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن تنظيم داعش قد طويت صفحته ولم يعد له وجود، فذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. ولكن وجود مناطق «محررة» للتنظيم بالبلدين بات من الماضي، وكل ما هناك هي بؤر محدودة جدا في صحراء محافظة الأنبار، لن يطول وجود داعش فيها.

واقع الحال، أن التجربة التاريخية لحروب العصابات قد أكدت أن الاحتفاظ بالأرض من قبل هذه التنظيمات هو مكمن ضعف فيها، وأنه الوسيلة الأسهل للقضاء عليها. فقوة هذه الحرب أنها تدور بين قوات معلوم أماكن تمركزها ومقراتها، وبين أشباح، يعتمدون على التخفي وسرعة الحركة.

وفي هذا السياق، يلاحظ مراقبون أن تأسيس داعش لما أطلق عليه «دولة الخلافة»، قد جعله ينشغل بأمور إدارة المناطق التي سيطر عيها، مما فرض عليه التقليص من عملياته الإرهابية التي كانت تصل في العاصمة العراقية، بغداد وحدها إلى أكثر من عشر عمليات في اليوم الواحد.

وهنا تحضر مقاربة أخرى، تذكر بالعمليات الفدائية لحركة فتح ضد الاستيطان الصهيوني، قبل تمركز منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وتأسيسها دولة الفاكهاني، والتي هي دولة داخل الدولة. لقد دشنت المنظمة مدارس ومستشفيات ومصانع ودورا لأبناء الشهداء والأيتام، وقدمت خدمات اجتماعية للفلسطينيين المقيمين في المخيمات بلبنان. ومن أجل ذلك بدأت في تشكيل قوات نظامية، وسعت للحصول على أسلحة ثقيلة من دبابات وعربات مجنزرة، ومدافع.

وكان هذا التطور عاملا رئيسيا في افتقادها عنصر المبادرة والحركة. لقد بات لديها ما تخشى عليه، ومن أجل الحفاظ على هذه البنية اضطرت حركة فتح لتجميد العمل العسكري ضد الكيان الصهيوني، ووقعت معه، عبر وسطاء، اتفاقات عدة تعهدت فيها حركة فتح بعدم القيام بأي عمليات عسكرية ضد العدو.

ما نهدف له هو أن تحرر داعش من دولته سيعيده مرة أخرى لأسلوبه القديم كحركة عصابات تعمل تحت الأرض، وربما ينتقل إلى مواقع أخرى، كما تشير المعلومات المتوافرة إلى انتقال بعض عناصر داعش للفلبين، وإلى إفريقيا واليمن، وربما إلى مناطق أخرى. وليس من المستبعد أن تنشط عملياته في البلدان العربية التي تتواجد فيه، لتأكيد حضوره، ولرفع معنويات أتباعه.

هناك تداعيات سياسية متوقعة على الجبهتين العراقية والسورية، ففي الأيام الأخيرة وقعت مجموعات من أطراف المعارضة السورية على وثيقة إسطنبول التي تضمنت الاعتراف بالحقوق الثقافية للأقليات القومية، بغض النظر عن حجم تواجدها على الأراضي السورية. من جهة أخرى، لقد بات واضحا نية السلطات الكردية تنظيم استفتاء في شمال العراق حول إعلان دولة كردستان المستقلة عن المركز، وستكون نتيجة الاستفتاء لصالح الانفصال. هذا الحدث سيأخذ مكانه في ظل عجز الحكومة المركزية عن فعل أي شيء، خاصة أن هذا القرار مدعوم بإرادة غربية، وبدعم من الولايات المتحدة الأميركية.

ولن يكون هذا التحول نهاية للصراع بين العراقيين والأكراد. فهناك مشاكل عدة تتعلق بحدود الدولة المرتقب إعلان ولادتها. فالأكراد يصرون على تبعية مدينة كركوك النفطية لإقليمهم، رغم كثافة الوجود العربي في هذه المدينة، كما يتمسكون بتبعية مدينة الموصل العربية للمنطقة الكردية. وربما يستخدمون مطالبتهم بها كورقة ضغط على الحكومة العراقية للتنازل لهم عن مدينة كركوك.

في سورية عملت الإدارة الأميركية على إعطاء ثقل للمجموعات الكردية، ومكنتهم من السيطرة على عدد من المحافظات السورية، بما يفوق بكثير قدرتهم على استيعابها، لكن ذلك تم نكاية بالحليف التركي الذي باتت علاقة أميركا سيئة به.

في العراق تبدو المشاكل أكبر بكثير مما هي في سورية. فهناك حشد شعبي لا يعرف كيف سينتهي أمره. هل سيتم دمجه بالجيش العراقي، أم يبقى قوة شبيهة بالحرس الثوري الإيراني؟ وما حدود طموح قياداته بعد قتالها جنبا إلى جنب مع الجيش العراقي لاستعادة المحافظات الأربع التي سيطر عليها داعش؟ وما مصير الإقليم السني الذي جرى الحديث عنه في السابق.

توقعات كثيرة بحدوث هزات ارتجاعية في المنطقة بأسرها يطول الحديث عنها، لن يطول بنا انتظار حدوثها، وهي بحاجة إلى المزيد من القراءة والتحليل.