يبدي فئة من الكتاب والباحثين أسفهم على خروج المعتزلة من التاريخ، ويرى بعضهم أن المعتزلة بخروجهم من التاريخ في عهد القادر بالله العباسي الذي جمع الناس على ما يسمّى «الوثيقة القادرية» التي قرر فيها عقائد أهل السنة، عام 408 هـ، وفرضها على الناس، ووقع عليها العلماء، ونهى عن الكلام والجدل والخوض فيه. وبناء على هذا «العهد القادري» تعرض كثير من المعتزلة وغيرهم من «المخالفين» إلى أوضاع صعبة شديدة، فقد صلب بعضهم، وقتل بعضهم، ونفى وشرّد بعضهم، وفي هذا يقول ابن الجوزي في كتابه الشهير «المنتظم»: «أخبرنا سعد الله بن علي البزاز، أخبرنا أبو بكر الطُّرَيْثِيثِيُّ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر باللَّه أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية، فأظهروا الرجوع، وتبرؤوا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبوالقاسم محمود أمر أمير المؤمنين، واستن بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين، وإيعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام». إنها حملة شعواء إذًا، أدت إلى هذه المحنة العظيمة التي نالت المخالفين. وقد جرت هذه القرارات الصعبة في سياق النزاع الشديد بين الدولة العباسية والدولة الفاطمية الإسماعيلية (وهو ما لم يحدث حتى في زمن ابن تيمية الذي يحمّله خصومه عبء الطائفية هذا اليوم نتيجة ضعف قراءتهم، أو ميولهم العاطفية، أو أيديولوجياتهم).
غير أن هذه الحادثة لا تعني خروج المعتزلة من التاريخ، أو خروج منهجهم من دائرة الفكر الإسلامي أو العربي. فقد تأسست للمعتزلة (الزيدية) في اليمن دولة استمرت ألف سنة، حتى عهد الإمام الراحل حميد الدين. ولا تزال بقاياهم في اليمن حتى هذه اللحظة، على الرغم من الاختلال الفكري الذي أصابهم تجاه الصحابة، على خلاف المشهور عن مذهب الزيدية طوال القرون السالفة.
وأيضا دخل الاعتزالُ التشيع الإثني عشري على يد محمد بن النعمان، الشهير بالشيخ «المفيد»، الذي تلمذ لعلي بن عيسى الرمّاني المعتزلي، وقيل إنه تلمذ كذلك للقاضي عبدالجبار الهمداني الشافعيّ المعتزليّ.
لا يمكن إطلاق القول إذًا أن المعتزلة أو الاعتزال خرجا من التاريخ، ويبدو أنه من غير الدقيق الزعم بأن الفكر الإسلامي بدأ يتقهقر منذ خرج المعتزلة، كما أنه لا يمكن الزعم بأن تقدّم الفكر الإسلامي ونهضته مقرونان بإحياء الاعتزال، ولو كان هذا الأمر صحيحا لما وصل الزيدية في اليمن من الناحية الفكرية وغيرها إلى ما لا يخفى على أحد.
ثم إن الفكر الإنساني اليوم بلغ شأوًا بعيدا في الفلسفة، وفي العلم الطبيعي، وفي التكنولوجيا، وفي علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وغيرها من العلوم، ومناهج البحث، فعن أي منهج اعتزالي تجمد في القرن الرابع الهجري نبحث؟ وقل مثل هذا في الفكر الأشعري وحتى السلفي، فما تلك المناهج في الاستدلال -بغض النظر عمّا فيها من صواب وخطأ- إنما هي أسيرة أزمانها وسياقاتها السياسية والتاريخية والاجتماعية.
نعم، يفيد الباحث من كل الاتجاهات الممكنة، وكل الفلسفات المفيدة، وكل المناهج المتاحة، ويحاول أن يضعها على محكّ النقد، أو يطورها، أو يولّد منها ما شاء له التوليد من المعاني. غير أن الزعم أن نهضة الأمة منوطة بإحياء منهج الاعتزال زعم لا يخلو من مبالغة.
شكر الله للمعتزلة والأشعرية والسلفية وغيرهم ما قدّموه على مرّ العصور، غير أن علينا الآن عبئا كبيرا هو أن نعيش عصرنا وقضاياه، ثم لا يهم بعد هذا أن نفيد من كل المناهج القديمة أو الجديدة، إذا كان هذا مبنيا على مساطر علمية، وموازين أثبتت جدواها.
أما أن يسعى كل لإحياء مناهج ولّت وانقضت، من دون أن يفيد منها ما يعيش به عصره وقضاياه، فذلك -لعمرك- هو الجمود.