الفساد ليس فقط كلمة قبيحة، بل من أسوأ الآفات التي انتشرت في هذا العالم لتهدده. وإن لم يجد أمامه من يتصدى له ويحاربه ويمنع انتشاره، لفَتَك بكثير من الدول والشعوب، وأوقف نهضتها، وعطّل تنميتها، ليقف في النهاية على أنقاضها رافعا رايته منتصرا، قبل أن يتسلل إلى مكان آخر.
ومَرَدة إفساد الذمم من البشر، يعيشون في محيط تعاملك اليومي، تلتقي بهم دون أن تتعرف على حقيقتهم إلا بعد أن تصطدم بهم بشكل مباشر، عندئذ تتحول حياتك إلى فيلم كئيب طويل، لا تعرف متى سينتهي، فهم ينشرون الفساد بطرق متطورة، لا تدركها إلا بعد أن تُركَل بين أقدامهم قليلا، كي تتأدب على صدقك ونزاهتك التي تثير حنقهم. مهمتهم في الحياة إفساد ذمم الآخرين من أجل نيل ما يريدون بالطريقة التي يريدون. وهم من الأساس يوارون نقصا شديدا تحت جلودهم السمكية التي تتفصد بالنذالة في أي لحظة، فلا يبالون سوى بتنفيس تلك الأمراض والعقد النفسية التي تملؤهم بالانتقام من الآخرين، لا لشيء محدد ارتُكب بحقهم، بل لأنهم يشعرون بالحقد حين يرون أن هناك أفرادا أفضل منهم، ما زالوا متمسكين بالمبادئ والقيم التي يفتقر إليها المردة، فيعملون على إفسادهم تنفيسا لأحقادهم، وكي يبقى الجميع معهم في المستنقع نفسه.
ولا يتوانى هؤلاء المردة عن استغلال أي شخص أقل نفوذا منهم، لتطويعه باللين أو بالقوة أو بالاضطهاد، فيحاصرونه، ويدكون نفسه دكا حتى يضعف ويستسلم وتفسد ذمته، ولا يتركونه إلا بعد أن يتحول إلى كائن مسعور، قادر على نهش كل شخص بقربه، خشية أن يأخذ مكانه أو يتقاسم معه الفريسة التي لا يعي في حالات كثيرة بأنها كانت مجرد جيفة لم يتقاتل أحد معه عليها من الأساس.
ومن أكثر الأدوات التي يستخدمها المردة، لإفساد ذمم الآخرين، المال والمنصب والجاه، فحين ينتقي صاحب المصلحة الشخص الذي يريد أن يجنده لحسابه، يكون قبلها قد كوّن فكرة كاملة عن نقاط ضعفه، فيستخدم الأداة التي تناسبه، وتناسب حجم نظرته لنفسه.
فهناك أشخاص لديهم استعداد أن يفعلوا أي شيء مقابل المال، وهؤلاء يلتقطهم المردة سريعا دون عناء، فيوظفونهم دون مسمى محدد، ولكن برواتب مجزية لا يحلمون بها.
وآخرون بأنفس دنيئة، يُشتَرون بسهولة، بوليمة طعام، فيقومون بخدمات دون حدود، وآخرون مهمشون دون هوية، لا يريدون سوى أن يشعروا بأنهم مهمين في محيط مجتمعهم، فيتمنى الواحد منهم أن يأمر وينهى، ويجلس على مكتب فخم ووثير، وهكذا.
وتنشط عمليات الإفساد في مواقف متعددة تشمل المصالح الإدارية والسياسية والرياضية، وتمتد أحيانا لتصل إلى محيط الأسرة، فتؤثر على ترابطها وعلاقاتها.
ولا تعتمد عملية إفساد الذمم على وظيفة معيّنة، بل على طبيعة الشخص المستهدف ومدى تقبله أي تحفيز للفساد، فلا يتوقف عند قبوله الرشوة، أو الاحتيال على القوانين من أجل تمرير مصلحة، بل وصل إلى الكذب وإفساد الأخلاق وموت الضمائر على مستويات رفيعة. ولم يعد بعض المردة يوثقون إفسادهم أثناء تعاملاتهم كثيرا، لأنهم يؤدونه بطريقة مبتكرة، فعلى سبيل المثال، يُنفِّع كل واحد الآخر، بتوظيف أقارب بعضهم بعضا، أو بوضع أبنائهم على مناصب بمميزات خيالية، دون أن يُسجل كل واحد على نفسه شيئا يدينه، كيلا تُحسب عليهم قضية محاباة، أو فسادا إداريا، وحين تحقق الجهات الرقابية على إثر شكوى مثلا، لن تجد لبصماتهم أثرا، لأن لديهم قوانين خفية غير معلنة، مكتوبة بالحبر السري الذي لا يقرؤه إلا مردة إفساد الذمم، لذا تحرص كثير من الشركات الكبرى حول العالم على أن يكون لديها، أسطولٌ من أعتى المحامين والقانونيين الذين تم إفساد ذممهم بالمال والمناصب، بحيث يكونون قادرين على تلفيق أو إخفاء أي قضية قد تكشف تلاعب أو غش الشركة، أو تظهر على السطح وتثير الرأي العام.
وفي تلك الشركات، تتم عمليات إفساد ذمم الموظفين بشكل روتيني، وكأنه جزء من منظومة العمل، فلا ينبغي أن يعترض أحد على الفساد، أو يشير إليه بأي شكل من الأشكال، حتى لو رآه بعينه يعربد مع الشيطان، لأن هذا يُعدّ في أنظمتهم ضعفا في المهنية، ومخالفة لا تغتفر تُجيّر ضدهم بإفشاء معلومات سرية عن العمل، لتهتز قيم النزاهة وتتغير داخل كل فرد، وتتدنى عن حالتها المثالية، إلى أن تصل لموت الضمائر.
وكل ذلك من أجل الاستمتاع بتلك اللحظة، لحظة الزهو التي تعتري صاحبها، في الدقائق الأولى لتوليه المنصب، أو حصوله على ما يريد، بعد أن يتذوق لذة النفوذ تحت سلطته، ومع مرور الوقت يتحول الزهو إلى شعور متناهٍ بالعظمة، فينبت منه معول يهدم كل ما بناه بالشر تدريجيا، فكل شيء بُني على قواعد فاسدة لا يستمر طويلا، ولا يبقى مهما كان حجمه.