شخصيا أعتقد أن أهم مشروع إصلاحي تم إنجازه في الفترة الماضية هو مشروع الابتعاث للخارج. باعتبار أنه المشروع الذي سمح لعدد جيد من المواطنين والمواطنات بخوض تجربة حياتية، ثقافية، علمية في غاية الثراء والأهمية. أيضا مشروع بهذه الأبعاد لا بد أن يخلق معه قضايا وإشكالات كثيرة قانونية وثقافية تعتبر جزءا من تواصل ثقافات مختلفة. من هذه الإشكالات إشكال أخلاقي وقانوني أثاره تصريح وكيل وزارة التعليم العالي الدكتور عبدالله الموسى للمبتعثين والمبتعثات مساء السبت الماضي ونشر هنا في "الوطن" تقرير عن اللقاء. سأعتمد هنا على ما تم نشره في "الوطن" خصوصا أنه يتوافق مع ما سمعته شخصيا أثناء دورة الابتعاث قبل وصولي للولايات المتحدة الأمريكية. القضية كالتالي: الوزارة تطلب من المبتعثين المتزوجين عدم اللجوء إلى السلطات الأمنية والقضائية الأمريكية لحل مشاكلهم الزوجية واللجوء إلى الجهات السعودية في أمريكا بدلا عن ذلك. في هذا المقال سأناقش هذا الطلب قانونيا وأخلاقيا مع التذكير هنا أن القضية هي قضية قانون ونظام وليست قضية شخص أو رأي خاص.
ورد في عنوان "الوطن" ما يلي "لا لتصدير خلافات المبتعثين الزوجية للحكومة الأمريكية". الشعار بهذا الشكل يولد كثيرا من المشاكل. أولا الخلافات الزوجية عملية طبيعية في أي أسرة ومن الطبيعي أن يحتاج جزء منها لتدخل جهات رسمية لحلها. هذه الجهات ليست الحكومة الأمريكية بل نظام القضاء الأمريكي والأجهزة الأمنية الأمريكية والفرق بينها وبين الحكومة كبير فهي مؤسسات ليس لها نشاطات سياسية ولا تخضع لحسابات الحكومات ولعبها السياسية، وبالتالي فاللجوء للأمن في الخارج لا يعني بأي حال من الأحوال تعاون المبتعث مع حكومة غير حكومته في سياق مشبوه بل هو تصرف طبيعي يقوم به أي إنسان لحماية حياته وماله وحقوقه وليس لعملية اللجوء إلى الأجهزة الأمنية في الدول مكان الإقامة أي بعد سياسي.
ثانيا طالب الدكتور الموسى المبتعثين باللجوء للجهات السعودية في أمريكا وأي خرق لهذا القرار سيعرض الطالب لإلغاء البعثة. من يسمع هذا التصريح يعتقد أن الملحقية السعودية في أمريكا تمتلك مكتبا في كل ولاية ومدينة وليس على المبتعث إلا الذهاب للمكتب لحل مشاكله. بينما الواقع أن هناك سفارة وملحقية ثقافية في واشنطن العاصمة وقنصلية في لوس أنجلس في الغرب الأمريكي. هذا كل ما في أمريكا من تمثيل سعودي. وبالتالي فالمطلوب من الزوجة التي تعاني من ظلم زوجها في ولاية في الوسط مثلا السفر لمدة ساعات بالطائرة لحل مشكلتها في الملحقية التي تغوص هي الأخرى في إنهاء إجراءات الطلاب الروتينية. هذا طلب غير معقول ولا مبرر له خصوصا إذا تذكرنا أن المشاكل الزوجية قد تصل إلى عنف جسدي أو احتجاز أو حرمان من حقوق أساسية كالخروج من المنزل والرعاية الطبية ومصاريف الحياة الأساسية. السكوت على هذه القضايا وعدم الاتصال بالطوارئ الأمريكية هو الجريمة الحقيقية. سلامة الإنسان أولى من أي اعتبار آخر. والوزارة حين تطلب من الطلاب عدم اللجوء إلى الأجهزة الأمنية في الخارج يعني طلبها من المبتعثات خصوصا السكوت على الجرائم التي قد يتعرضن لها بحجة "عدم تصدير المشاكل" وأؤكد هنا أن الجهات السعودية في الخارج ليس لها القدرة على القيام بأدوار أمنية فهذا خارج اختصاصها ويعتبر تعديا على صلاحيات الدول التي تتواجد على أراضيها.
وبالتالي يصبح طلب الوزارة كالتالي: لا تلجأ لجهات أمنية أمريكية في أمريكا لحمايتك مع العلم أننا لا نستطيع حمايتك. دعونا نتصور هذا المشهد: مبتعثة سعودية تعيش مع زوجها وأطفالها، هذا الزوج لأسباب صحية أو ثقافية يعتقد أن من حقه ممارسة العنف الجسدي والاحتجاز في المنزل تجاه زوجته وأولاده، أي إنه يعتقد، وكثير هم كذلك، أن له الحق أن يضرب زوجته إذا لم تسمع كلامه ويمنعها من الخروج من المنزل وكذلك أطفاله، هل تطلب الوزارة من هذه المبتعثة السكوت عن هذه الجرائم خصوصا أننا نعلم أن الملحقيات ليس لها القدرة على حل إشكالات بهذا الشكل؟ إذا كان هذا هو طلب الوزارة فهو اشتراك في الجريمة ذاتها وبالتالي يستحق من وضع هذا القانون المحاكمة. أما إذا كان لدى الوزارة تعريف خاص للمشاكل الزوجية يخرج منها جرائم العنف الجسدي والاحتجاز وسلب الحقوق الأساسية فإن على الوزارة توضيح هذا الأمر بشكل دقيق تجنبا لسوء الفهم الموجود حاليا بدلا من تهديد المبتعثين بقطع بعثاتهم بسبب محاولتهم حماية حياتهم كحق إنسان أولي وأساسي.
الحقوق الأساسية ومنها حق التقاضي واللجوء للأجهزة الأمنية هي حقوق جوهرية لا يملك أي مسؤول مهما كان منصبه أن يهدد بسلبها من أي إنسان. المبتعث السعودي في أي مكان في العالم له حق أساسي من حقوق الإنسان أن يلجأ للأجهزة الأمنية القريبة منه لحماية حياته وماله وعرضه. فكما أنه ليس من المعقول أن نطلب من المبتعث عدم تبليغ البوليس حين يتعرض للسرقة فإنه ليس من المعقول أيضا الطلب منه عدم اللجوء للأمن في المشاكل الزوجية التي قد تحتوي على قضايا جنائية خطيرة وأساسية.
الوزارة برأيي مطالبة بتفصيل دقيق لموقفها في هذه القضية الذي يمسّ حياة عدد كبير من المواطنين خصوصا وأنها الجهة المسؤولة عن هذا البرنامج الأساسي والمهم لمستقبل المواطن والوطن، وخصوصا أيضا أنها الجهة التي تدير هذا البرنامج بدرجة عالية من الإتقان والجودة والعمل المنظم والكل يقدّر جهود المسؤولين القائمين عن هذا المشروع الرائع. لكننا هنا نحتاج لتوضيح في قضية لا تحتمل عبارات مطاطة وضبابية، فالموضوع موضوع قانوني يمس حياة وسلامة المواطنين السعوديين الذين هم هدف كل الجهات الرسمية وكل مؤسسات الوطن.