في كتاب التعالم، أن رجلا كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه، بنحت كلمة ليس لها أصل هي «الخنفشار»، فسألوه عنها، فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال شاعرهم اليماني:
لقد عَقَدَت محبتُكم فؤادي.... كما عقد الحليبَ الخنفشار
وقال داود الأنطاكي في «تذكرته» كذا وكذا، وقال فلان وفلان..
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء، فلا تكذب على النبي «صلى الله عليه وسلم».
وتحقق لديهم أن ذلك المسكينَ: جِرَاب كذبٍ، وعيبة افتراءٍ في سبيل تعالمه، فما كل من ادّعى العلم، أو تنمَّر في المجالس، ليوهم غيره أنه ذو قدرات علمية فائقة، يُعد فقيها، ولذلك نقل الإمام مالك عن ربيعة أنه قال: «ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق»، هذا في زمن الإمام مالك، فكيف بزماننا هذا؟ الذي كثر فيه مدّعو العلم والفقه، بينما أقوالهم وأفعالهم تناقض العلم والفقه، ومن شاء الدليل فلينظر إلى كثيرٍ من القنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد فضحت كثيرا من مدَّعي العلم، وبينت جهلهم، ورصدت تجاوزاتهم، وإن كان بعضهم حريصا على إلقاء الهالة على نفسه، والتزكية لها عند التعريف بشخصه، وحقيقة الأمر: ضعفٌ ظاهر، ودعوى عريضة، وإقحام لأنفسهم فيما كُفُوا مؤنته، ومع وجود هؤلاء المتعالمين المتسرعين، إلا أنه -بحمد الله- يوجد فضلاء وعلماء قديما وحديثا، لديهم رسوخ في العلم، وفقه للمآلات، وعقل راشد، وخوف من الله، وهضم للنفس وتواضع، ومن ذلك التواضع، قول أبي عمرو البصري أحد القراء السبعة: «ما نحن فيمن مضى، إلا كبقلٍ في أصول نخلٍ طوال»، وكانوا يقولون: «من أحبَّ أن يُسأل فليس أهلا أن يُسأل»، بينما بعض الخنفشاريين بسبب جهله، وشعوره بالنقص، ورغبته في الظهور، يفتي في قضايا مصيرية، ويتقدَّم على الراسخين في العلم في زمانه، مخالفا بذلك منهج السلف الصالح، الذين لا يتقدمون على من هو أولى منهم، فهذا أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- مع أنه صحابي جليل، لما رأى قوما في المسجد يسبِّحون بالحصى، ذهب إلى من يراه أعلم وأفقه منه، وهو ابن مسعود -رضي الله عنه- وعرض عليه ما رأى، فقال ابن مسعود: فما قلتَ لهم؟ فقال: ما قلتُ لهم شيئا انتظار رأيك أو أمرك.
هذا الفقه لا وجود له عند الخنفشاريين، مدَّعي العلم، ومحبي الشهرة، الذين يتقدمون على الراسخين في العلم، في الفتوى والحكم على الناس، وما كان ينبغي لهم ذلك، كما لا ينبغي لطالب العلم أن يكون مطيةً لغيره، من أهل التغريب أو التكفير، مهما أغدق عليه أهل الشهوات من صفات المدح كالوسطية وسعة الأفق والمرونة والعالمية ونحوها، ومهما أغدق عليهم أهل الغلو من صفات المدح كالصدع بالحق، والغيرة على الدين، والاستقلالية ونحوها، ومهما أظهروهم في قنواتهم، فكل ذلك زبدٌ وجفاءٌ لا قيمة له، وإنما العبرة بالسير على الهدي النبوي، وهو ما سار عليه السلف الصالح، قولا وعملا. ومن أمثلة الصدق في المواقف أن ابن تيمية لما رأى أن ابن قلاوون يريد أن يقتل خصومه من القضاة، ويريد أن يحصل على فتوى من شيخ الإسلام بذلك، لا سيما وهم كذلك خصوم لابن تيمية، حكموا بسجنه وأرادوا قتله، كما بيَّن له ذلك ابن قلاوون من خلال الوثائق التي أطلعه عليها، وقال: انظر، حكموا بقتلك، قال شيخ الإسلام: ففهمتُ مقصودَه، وأنَّ عنده حنَقًا شديدًا عليهم، فشرعتُ في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلَهم في دولتك، أما أنا فهم في حلٍّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنتُ ما عنده عليهم، فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية -وهو أشد أعداء ابن تيمية- يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية؛ لم نُبْقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قدَر علينا عفا عنا، وحاجج عنّا.
بينما مدعو العلم يَفْجُرون في الخصومة مع مخالفيهم، ولا يستطيعون أن يقولوا ويعدلوا مع مخالفيهم، فضلا أن يفعلوا ما فعله شيخ الإسلام مع خصومه، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة.
كما أن من أمثلة الفقه في مآلات الأمور، عدم إنكار المنكر، إن كان يؤدي إلى منكر أكبر، وهذا الفقه لا يتحمله المتسرعون، يقول شيخ قال ابن تيمية: «مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدَعْهُم».