في مطالع عام 1985، تبنت الجامعة الأردنية، في العاصمة عمان، مؤتمرا، اعتُبر الأول من نوعه، خُصص

لمناقشة الفلسفة في الوطن العربي المعاصر. وشارك في هذا المؤتمر 16 مفكرا عربيا، من الذين عرفوا باهتماماتهم بالقضايا الفلسفية، منهم: الدكتور حسن حنفي، والدكتور فؤاد زكريا، والدكتور أنور عبدالملك،

والأستاذ محمود أمين العالم، والدكتور عادل ظاهر، والدكتور كمال عبداللطيف، وآخرون.

وأصدر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، بحوث هذه الندوة في كتاب مستقل صدر في سبتمبر من العام نفسه، وأعيد طبعه مرة أخرى، في نوفمبر 1987.

تناول الكتاب 3 أقسام، ذات علاقة مباشرة بالفلسفة العربية، الأول توصيفي: كما كان من المفترض. وحمل عنوان مشروع الفلسفة العربية المعاصرة. أما القسم الثاني، فاهتم بنقد الخطاب الفلسفي العربي، مركزا على النصوص والمناهج. في حين ركز القسم الثالث والأخير، على ما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة العربية، وحمل عنوان خصوصيات وآفاق.

كما ضم الكتاب ملاحق، شمل الملحق الأول أسماء المشاركين في المؤتمر، أما الملحق الثاني فتضمن دعوة إلى تأسيس جمعية فلسفية عربية، وتأكيد الاهتمام بالفكر العربي المعاصر، في حين شمل الملحق الأخير، البيان الختامي للمؤتمر الفلسفي العربي الأول.

سياق هذه المقدمة، هو بهدف التأكيد على أن ثمة جهود عربية بُذِلت لمساعدة الفكر العربي، على التطور والنمو، ولكن المعضلة تكمن في أن المحاولات التي تُبذَل، كانت تفتقر باستمرار إلى التراكم. فالجهات العلمية التي تتحمس لهذا النوع من المشاريع، سرعان ما يخبو حماسها، وبذلك تفتقر مشاريعنا الفكرية، على الدوام إلى عنصر التراكم، الذي هو عنصر مهم، لبناء أي مشروع نهضوي عربي، كما هو مهم في كل المشاريع الفكرية والعلمية.

الورقة التي تقدم بها الدكتور حسن حنفي، وحملت عنوان «موقفنا الحضاري»، من وجهة نظري تميزت بالعمق،

من حيث توصيف معضلة الفكر العربي، أو من حيث توصيفها للأصالة، ممثلة في الموروث العربي، أو من حيث تناولها موضوع الحداثة، باعتبارها المعبر عن مفهوم المعاصرة.

يري الدكتور حنفي أن معضلة الفكر العربي، في حالتي الأصالة والمعاصرة، تمثلت في غياب الإبداع والخلق، وعدم القدرة على المبادرة.

فالأصالي يستعيد الموروث، وعلاقته به هي علاقة الناقل، وليست علاقة المفكك والقادر على استحضار التاريخ، وتمكين الموروث من أن يحيا في زمن غير زمنه. إنه يخاطب الحاضر، بلغة غريبة عليه. وبذلك يفتقر إلى القدرة على التعامل الإيجابي مع الحاضر.

إن أقصى ما يقوم به الأصالي، كما يرى الدكتور حنفي، هو جمع الموروث، دون تغيير أو تطوير، أو إعادة اختيار، في حين أن التراث القديم ليس منفصلا عنا، بل هو جزء منا ونحن جزء منه، كونه أعطانا تصوراتنا للعالم، وأمدنا بموجهات السلوك. لكننا لم نستثمر باقتدار ما يختزنه من طاقات روحية عظيمة. وواصلنا تكرار تأويلاته القديمة، رغم تغير الظروف. والأنكى في كل ذلك أن اختيارنا كان انتقائيا، بحيث كانت جل اختياراتنا منه، هي ما يعوق حركتنا ويجعلنا غرباء في الزمن الكوني الذي نعيش فيه.

وبالمثل، تعامل الحداثيون مع أفكار الحداثة، تعامل الناقل وليس تعامل المبدع الذي يمتلك القدرة على التوطين. وفي هذا السياق، يؤكد حنفي، أنه في دعوته للتوطين، لا يهدف إلى تحجيم الغرب، والقضاء على أسطورة عالميته، ولا يدعو إلى الانغلاق، أو العودة إلى جنون الذات، أو رفض التعرف على الغير، أو الانفتاح على الآخر. فتلك لم تكن سنة أجدادنا العرب والمسلمين الذين تفتحوا على الثقافات الأخرى، ونهلوا منها.

إن ما يؤخذ على الحداثيين، في هذا السياق، أن فترة التعلم قد طالت، وفقدت قيمتها كوسيلة للدخول في عصر الحضارة، وبناء النهضة الجديدة.

إن التعلم من الغير وسيلة، وليست غاية، ومرحلة وليس تاريخا، ومحرك وباعث على الدخول في عصر العلم، وليس بديلا عن الخلق والإبداع والبناء.

لقد كانت الدعوة إلى الانفتاح على العرب في أوائل القرن الماضي، لها ما يبررها بعد سبات العرب الطويل، وأيضا كرد فعل إيجابي على التحدي الحضاري الذي مثله الغرب، علما وصناعة وحرية. ولكن بسبب طول فترة التعلم، انقلب الانفتاح إلى نقيضه، وبات نوعا من التقليد والمحاكاة. فكان أن نشأت ظاهرة التغريب بدلا من التوطين. فباتت الحضارة الغربية، هي النمط الأوحد، لأي تقدم حضاري، ولا نمط سواها. وأن على أية أمة ترنو إلى التقدم أن تسير على منوال هذه الحضارة.

وهكذا، بات تصورا لدى دعاة المعاصرة، أن الغرب هو ممثل الإنسانية جمعاء، وأوروبا هي مركز الثقل في الحضارة الإنسانية.

تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية، وعصر أوروبا الوسيط، هو العصر الوسيط للعالم بأسره، مع أن قمة توهج الحضارة العربية الإسلامية وذروة عطاءاتها كان في العصر الوسيط لأوروبا، حيث التخلف والاقتتال، كان هو عصرنا الذهبي.

ومن خلال هذه القراءة، يشخص الدكتور حنفي المعضلة، ويحصرها في أبعاد ثلاثة: هي الموقف من التراث، حيث ما يزال مجتمعنا تراثيا بامتياز، وحيث ما يزال القدماء يمثلون سلطة معرفية بالنسبة للمجتمع العربي. والثاني، هو الموقف من التراث الغربي الذي بات أحد الروافد الرئيسية لوعينا، وأحد مصادر المعرفة المباشرة، لثقافتنا العلمية والوطنية.

أما البعد الثالث، فهو موقفنا من الواقع الذي نعيش فيه، والذي نحتويه في شعورنا بوعي، أو غير وعي. إن هذا المثلث ذا الأبعاد الثلاثة، هو مثلث غير متساوي الأضلاع، الأضعف فيه هو الضلع المتعلق بنا وبحاضرنا. أما الضلعان الآخران، فيتنافسان على اكتسابنا. وعلينا تقوية البعد الخاص، بنا، من خلال خلق الثقافة والفكر، الذي يليق بنا وبحاضرنا، والذي يمكّننا من أن نكون ترسا فاعلا في مسيرة الحضارة الإنسانية المتجهة إلى أمام.